العدد 2278 - الأحد 30 نوفمبر 2008م الموافق 01 ذي الحجة 1429هـ

مَزْحَةُ السِّيَاسَةِ رَصَاصَة في الصُّدْغ

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل أيام سأل طالبٌ إيراني من جامعة شريف بطهران الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني: هل أنتَ على تواصل دائم مع القائد؟ وما هو مستوى وطبيعة هذه الاتصالات؟ رفسنجاني قال بلسان مباشر وصريح « لن تجد شخصين في هذا البلد، أقرب من بعضهما بعضا مثلي أنا وآية الله الخامنئي».

ولأنّ الطالب مهموم بالسياسة الإيرانية المحكيّة، فقد باغته من جديد «هل ما زلْتَ تحبّه؟» فأجابه رفسنجاني «أحبّه كثيرا. أنا والسيد الخامنئي أصدقاء قريبان من بعضنا بعضا، لأكثر من خمسين عاما. ونتشاور معا حول كلّ شيء».

ويضيف هاشمي رفسنجاني «إنني أتناول العشاء مرة كلّ أسبوعين بشكل منتظم في منزل السيد الخامنئي، ونبحث قضايا الساعة لمدة ساعة أو ساعتين، وقبل أنْ يصير آية الله الخامنئي قائدا أعلى، كنْتُ أذهب إلى بيته مرة في الأسبوع، وفي الأسبوع الذي يليه هو يأتي إلى منزلي. لكن بعدما بات قائدا أعلى... أنا مَنْ يذهب إليه على الدوام».

ثم يختم حديثه للطالب المهموم بالقول «عندما نختلف في وجهات النظر، أتخلى عن وجهة نظري؛ لأنني أستطيع أنْ أقول إنّ آية الله الخامنئي قرّر هذا. ومن واجبي قانونيا ودينيا أنْ أطيعه. فهو القائد ونحن التابعون» (راجع ما كتبته الزميلة منال لطفي).

كتبتُ عن هاشمي رفسنجاني أكثر من مرة. وفي الثالث والعشرين من شهر يونيو/ حزيران من العام 2005 كتبْتُ في صحيفة الوسط عن معركة البراغماتيين والطوباويين حين كان الرجل يخوض معركة شرسة في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية التاسعة ضد الرئيس محمود أحمدي نجاد.

حينها طرحتُ سؤالا وتركتُ إجابته للناخب الإيراني. قلت: أيهما أحق برئاسة الجمهورية الإسلامية؟ رفسنجاني أم نجاد؟ اليوم وبعد مُضي أكثر من ثلاث سنوات وخمسة أشهر وثمانية أيام على السؤال أستطيع الإجابة عليه اليوم باعتباري مُراقبا ومُتابعا، بأنّ رفسنجاني كان أحقّ بالرئاسة من نجاد.

ليس لأنّ الأخير سيء، بل لأنّ رفسنجاني هو أقدر. فنجاد أفضل من خاتمي، ورفسنجاني أفضل من نجاد، والكل أحسن من أنفسهم بذواتهم (بحسب تعبير الإمام الخميني في خطاب ستّينِيٍ له).

أحمدي نجاد (ولِحَدّ الآن) عمل لإيران ما لم يعمله خاتمي بأضعاف في ثمانية أعوام. لكن افتراضا أنْ يكون هاشمي رفسنجاني رئيسا للجمهورية الإسلامية في حكومة تاسعة فإنّه بالتأكيد سيكون قادرا أنْ يفعل ما فعله الاثنان معا وبزمن أقل.

ما أقوله ليس انتقاصا لسبعة عشر مليونا و248 ألفا و782 إيرانيا صوّتوا لأحمدي نجاد في انتخابات العام 2005 الرئاسية، وإنّما هو انحياز لعشرة ملايين و46 ألفا و701 من الإيرانيين صوّتوا لهاشمي رفسنجاني أيضا.

اليوم لا يندبنّ أحدٌ من الأحزاب الإيرانية على لبن مسكوب، إن افتُرِض أنّه مسكوب حقا. فرفسنجاني لن يترشّح للرئاسة مرة أخرى بعد تشريع البرلمان السابع لقانون يحضر على مَنْ بلغ الخامسة والسبعين من العُمر الترشّح لرئاسة الجمهورية.

إنّ ذلك لا يهم كثيرا، ما دام الرجل لا يريد أنْ يقبض على سلطة تتنازعها فئويات لا يتشكّل هو منها، فإنْ قَبِلَ مرة أن يحدّ من غلوائهم في انتخابات المجلس السادس فلأنه سَمِعَ من المرشد كلمة تقول له «إنّ ذلك متعيّن ولا سبيل سواه».

فهو بالأساس صانع لتلك المجاميع وليس متورّطا في تفصيلاتها. وإذا ما عُرِف أنّه أحد مُشكّلي ملامح الثورة فلا حاجة إذا لأنْ يكون حاله كحال الآخرين. أو أنْ يحتسي ما يرتشفه أؤلئك من كرّ وفرّ وإقدام وإحجام بشكل يومي.

ما حَاقَ برفسنجاني من حيف يفوق كلّ تصوّر. فالإصلاحيون المتطرفون حرقوا شخصه في انتخابات التشريع السادسة العام 2000 لدواعي التهريج السياسي التي واكبت تلك الفترة من صعودهم، ولإكمال «القبضة الخالصة» لتلابيب الحكم.

والمحافظون غير التقليديين أعرضوا عنه بشكل فج، مُتحالفينَ في ذلك مع لغة الناس المحكيّة حول رأسماليته المزعومة. ثمّ شرّعوا ما استطاعوا في البرلمان حتى لا يصل إلى الرئاسة مرة أخرى.

اليوم من أضاعوه من الإصلاحيين المتطرفين قبل ثمانية أعوام يتوسّلون وزنه لمواجهة خصومهم في تيار اليمين. ومن أعرضوا عنه من المحافظين غير التقليدين باتوا يُدركون بأنّ خلافاتهم البرلمانية مع مجلس صيانة الدستور ستؤول إلى أحضانه في نهاية المطاف (بحسب الدستور) باعتباره رئيسا لمجمع تشخيص مصلحة النظام.

اليوم لن يكون رفسنجاني مُحتاجا كثيرا لهؤلاء. مَنْ يُراقب عمله السياسي سيلحظ أنّ ما كان يقوله عن مجانبة العمل اليومي المباشر قد تحقّق. لأنّ ذلك استنزاف، وخزّان مثقوب القعر تتسرّب منه الكازيما في استعارة لمقولة ماركيزية.

فرفسنجاني عاش إرهاصات الثورة. وشَهِدَ انتصارها، وعاين اغتيالات كوادرها، ودخل حربها، وأدار سلمها، وفُجِع بوفاة زعيمها، وحمل مِعول بنائها، وتألّم لشرخها، وساهم في جبرها، وتجرّع فجاجة سفهائها (من الإصلاحيين المتطرفين). فحقّ أنْ يكون سادنا من سدنتها.

ما قاله هاشمي رفسنجاني للطالب الإيراني ذكّرني بما قاله المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله السيد علي الخامنئي له بعد ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية التاسعة بيوم واحد والتي فاز فيها أحمدي نجاد بأغلبية مريحة أو مطلقة.

المرشد الأعلى قال: «إنني أقدّم شكري الجزيل لجميع السادة وخصوصا إلى سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ هاشمي رفسنجاني الذي يعتبر من ذخائر الثورة وأحد الشخصيات البارزة لنظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وآمل من أخي العزيز ورفيقي القديم أنْ يؤدي دوره مثل السابق في المجالات المهمّة للنظام الإسلامي».

الخطاب لم يكن مألوفا في التصريحات السياسية للمسئولين الإيرانيين. فهو يجترح ممرا تُغذيه علاقة شخصية، وتاريخ مُثنّى، وتوازنات لمراكز القوى، ثم فهمٌ لفهمٍ ناجز، وآخر مُلتبس، وأخيرٌ مُعنّف.

وربما يُلحَظُ اليوم وبعد وصول الشيخ هاشمي رفسنجاني إلى أعلى سلطة رقابية في إيران وهو مجلس خبراء القيادة، كيف أنّ سلوكه بات بعيدا جدا عن هموم الأحزاب السياسية ومماحكاتها.

وإن سُمِعَ أنه قال حديثا أو نقدا لأداء سلطة تنفيذية أو تشريعية أو قضائية فلأنه مُفوّض بمرسوم صادر عن المرشد الأعلى يُخوّله بحسب المادة 110 من الدستور حقّ الإشراف على أداء السلطات الثلاث في النظام

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2278 - الأحد 30 نوفمبر 2008م الموافق 01 ذي الحجة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً