كان منظرا دراماتيكيا كمشاهد الأفلام الهندية الرومانسية، يوم وقف الجنرال الباكستاني برويز مشرف ليعلن تنازله عن قيادة الجيش، وهو يخفي دموعه تحت قبعته ويمسح أنفه المحتقن بالمنديل.
أربعون عاما قضاها في المعسكرات وطوابير التدريب وثكنات الجيش، يبدأ نهاره في ساعة محددة وينام في ساعة أخرى، في نظام عسكري صارم يعشقه جنرالات الجيش! ومع هذا الجيش خاض حربين دمويتين ضد جاره الهندي اللدود، فكيف له أن يخلع بزته العسكرية بعد هذا التاريخ والعمر الطويل؟
لقد كان صادقا حين وصف خلع بزته العسكرية: «إنني أخلع جلدي الثاني»، ففي السنوات التسع الأخيرة التي قضاها حاكما في القصر، بقي ممسكا برقبة الجيش، في بلدٍ كلما أخذ الحكم المدني يتنفس فيه، ركب أحد الجنرالات دبابة وتوجه بها إلى القصر، وطرد الحاكم أو علّقه فوق المشنقة.
بلدٌ قضى نصف سنوات عمره الستين تحت أحذية العساكر، الذين يعدون الشعب بإعادة العمل بالديمقراطية في ظرف ثلاثة أشهر، فتتحول وعودهم إلى سنوات. فعلها من قبل أيوب خان الذي أطاحت به حركة شعبية بعد 11 عاما، وفعلها من بعده خليفته يحيى خان، الذي قادته حماقته إلى إلغاء الانتخابات في باكستان الشرقية فأفضى ذلك إلى الانفصال. وفعلها أيضا ضياء الحق، الذي أطاح بعلي بوتو (والد بي نظير) بتهمة تزوير الانتخابات، وفرض الأحكام العرفية وأمسك بتلابيب باكستان بحجة تطبيق الشريعة، وعندما نظم انتخابات بعد سبع سنوات لم يسمح للأحزاب بالمشاركة، ولم تنقشع غيمته إلاّ بسقوط طائرته في تفجير مريب.
مشرّف لم يأتِ ببدعة إذا حين أطاح بنواز شريف، فهدفه كان واضحا جدا: «ليس فرض الأحكام العرفية ولكن لأفتح طريقا جديدا باتجاه الديمقراطية»، وصدّق الرجل نفسه... فكل ما يقوم به إنما هو من أجل الديمقراطية و «حماية الدستور»، يقولها تحت القسم ويشهد عليها «قاضي القضاة»!
تنظيم الانتخابات ليس بدعة أيضا، فدائما ما تأتي صناديق الاقتراع في البلدان التعيسة بالأجنحة الفاسدة التي تعتاش على الرشا والصفقات. وهكذا كان في 2002، حين فاز جناح (قائد أعظم) المؤيد له بالأغلبية، ولتطعن المعارضة ما تشاء بنزاهة الانتخابات!
من بين الجنرالات الأربعة، سيبقى مشرف هو الوحيد الذي قاد انقلابا على نظامه بنفسه، معلنا الأحكام العرفية على حكمه، وبعدما تزايدت الضغوط حتى من أقرب المستفيدين منه، أعلن إجراء انتخابات منتصف فبراير/ شباط المقبل، ولأن اللعبة كانت مكشوفة ومحرجة للأشقاء الأميركيين، أخذوا يوجّهونه من بعيدٍ بالروموت كونترول: «المفروض أن يتخلّى عن زيّه العسكري قبل أن يتسلم الرئاسة»، فالمسألة مجرد زيٍّ عسكري يخلعه، ويا دار ما دخلك جنرال!
يوم الأربعاء الماضي، كان آخر يومٍ يرتدي فيه «البدلة العسكرية» التي تثير حساسية الأميركيين الجمهوريين الديمقراطيين! لم يستطع الجنرال القوي أن يمنع دموعه، حاول أن يخفيها وراء نظارته وقبعته، وما يخفف عليه وطأة فراق المعسكرات وثكنات الجيش، أنه سلم الأمانة إلى نائبه الأمين في رئاسة الأركان، وأنه لن يذهب بعيدا... حتى لو أصبح بعد قليلٍ رئيسا مدنيا في عيون الأميركان، فيما تتحوّل باكستان إلى حظيرة تضم 150 مليون (...)، وهل تؤخذ آراء البهائم في الرعاة؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1911 - الخميس 29 نوفمبر 2007م الموافق 19 ذي القعدة 1428هـ