احتشدت جماهير غفيرة مساء أمس في الساحة المقابلة لمقبرة بني جمرة في الحفل التأبيني السنوي الأول لرحيل الشيخ عبدالأمير الجمري الذي تستمر فعالياته حتى مساء اليوم. وفي بداية الحفل، عرض رئيس تحرير صحيفة «الوسط» منصور الجمري نماذج من حياة الشيخ الجمري الذي اكتسب من خلالها حب الجماهير قائلا:« إن اليوم الذي توفي فيه الوالد لم يكن يوما عاديا، وكان من أبرد أيام السنة وكانت الحشود تفد بشكل لم تشهده أية جنازة في تاريخ البحرين. وكانت الترتيبات تجرى بسرعة بمشاركة مجموعة من العلماء والأعلام، واضطررنا إلى نقل الجنازة سرا إلى منطقة في وسط منطقة البديع بعد أن سرت الأخبار بوجود أعداد هائلة تسعى للمشاركة في المسيرة، وكانت المسيرة كبيرة جدا بحيث لم يكن المشاركون في الصف الأول من الجنازة يسمعون من بآخرها».
وعاد رئيس تحرير «الوسط» بذكريات الحضور إلى اللحظات الأخيرة من توديع الشيخ الجمري، مشيرا إلى أن» إدخال الجنازة إلى القبر كان من أكبر التحديات، وساعد البرد القارس في تفريق الجموع، ولولا هذا البرد لما فارقت الجماهير القبر حتى أصبوحة اليوم التالي، وكان الشباب يعملون جاهدين لحماية القبر من الاندثار، كل تلك مشاهد لا يمكن أن تمحى من الذاكرة، والسؤال الذي ظل يطرق مخيلتي هو: ما الذي كان يربط هذه الجماهير بالشيخ الجمري؟...».
وقال الجمري:« للإجابة عن هذا السؤال لابد أن نطوف بمحطات حياة الشيخ الجمري، ففي العام 1973 عندما عاد الوالد لترشيح نفسه للمجلس الوطني للدائرة الرابعة عشرة التي تضم قرى عدة كانت الدوائر موزعة بصورة عادلة أكثر من الوضع الحالي، ورشح نفسه وذهب في عدة زيارات وذهبت معه بمعية الشيخ عيسى قاسم إلى نادي البديع وهناك التقى بالأهالي وشرح لهم الأهداف التي يسعى لها من ترشحه، وأتذكر أنه أشار عندما زاره وفد من البديع أن مشاكلهم هي مشاكل القرى الأخرى».
وأوضح الجمري أن مجلس الشيخ عبدالأمير في بني جمرة كان مركزا للكتلة الدينية، وكان يذهب إلى المجلس الوطني في كل يوم وملئه النشاط، وفي أحد الأيام دخل مجلسه وهو حزين، وكان جوابه حين سألنا « لقد أغلقوه» وكان ذلك في العام 1975 عندما رفض الشيخ الجمري ومجموعة من النواب قانونا لحبس الناس لمدة 3 سنوات بمجرد الشك فيهم.
وقال:«لقد كان الجمري يتحرك في المجتمع، ويسعى إلى توحيد كلمة علماء الدين وخطباء المنبر الحسيني (...) الجمري شخصية اعتصرت بألم الناس، وكان يردد عندما ساوموه في عدة مرات: «كل أبناء الشعب أبنائي» ولم يوقف أي شيء رغم أن مراقبته استمرت لمدة 20 عاما!... لقد كان وقوفه إلى جانب الفئات المحرومة، وأبناء الشعب، كل ذلك أسهم في تأصيل الحب بينه وبين الجماهير التي شيعته في أضخم مسيرة عرفها تاريخ البحرين».
وألقىالشاعر جعفر الجمري قصيدة بهذه المناسبة تناول فيها مفاصل من شخصية الشيخ عبدالأمير الجمري.
من جهته ألقى الأمين العام لجمعية العمل الإسلامي الشيخ محمد علي المحفوظ كلمة قال فيها: «أننا ننتمي إلى دين يحمل أتباعه المسئولية، ولأننا ننتمي إلى دين يدعو أتباعه إلى الحق ورفض الظلم، ولأننا ننتمي إلى دين يدعو إلى الخلق... ولأن الشيخ الجمري تربى في هذه المدرسة، بل وكان من رواد منابر ثورة الإمام الحسين (ع) التي علمت الناس كيف يحملون الحق ويتحملون المسئولية وكيف يحملون الأخلاق، ولأننا ننتمي إلى هذا الدين العظيم، فمن الاستثناء ألا يخرج من يحمل هذه الأخلاق».
وأضاف «لأن العلماء ورثة الأنبياء، فمن الطبيعي أن مسيرة ذات الشوكة لابد أن يمر بها العظماء ومن يحملون على عاتقهم التطلعات والطموحات ومن يتحملون إغاثة الملهوف وإعانة المظلوم، ومن الطبيعي أن يتحمل الجمري هذا الطريق، طريق ذات الشوكة والصعوبات. لقد تحمل الجمري ما تحمله من صعوبات، بين سجن وإقامة جبرية ومرض، ورحل تاركا هذه الأجيال من دون وضوح المصير، ولذا كان الفراق صعبا على الجمري وصعبا على محبيه».
وتعرض المحفوظ في كلمته إلى محطات رئيسية في حياة الجمري، ففي المحطة الأولى كان سماحة الشيخ الجمري صاحب مشروع كبير وهو تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتنظيم الواقع السياسي، ولخص مشروعه في شعار البرلمان وتحدث عن ضرورة مجلس نيابي ينظم العلاقة السياسية في أي مجتمع. وقد تحمل ما تحمل من أجل أن ينجح المشروع، وتعاون مع الناس وتعاون مع الأطياف المختلفة وكان واضحا أمام نفسه وأمام الناس.
وقال: «في المحطة الثانية، استطاع أن يجمع الناس من حول مشروعه ليدفع البلد باتجاه حراك سياسي واجتماعي جديد، وبقي صامدا حتى بعد غربة السجن والإقامة الجبرية واجتمع حوله الناس لأنهم يرون فيه الأمل... وفي المحطة الثالثة أن الشيخ الجمري بقي وفيا لمشروعه حتى بعد أن جيء بالبرلمان».
وتحدث رئيس المجلس الإسلامي العلمائي الشيخ عيسى قاسم عن شخصية الشيخ الجمري قائلا: «بُعدان لشخصية أبي جميل رحمه الله، بعدها الديني وبعدها السياسي، ليس لأن شخصيته اقتصرت على هذين البعدين؛ التقت شخصيته ببعد خط الله من خلال وحي الفطرة والبصيرة، فكان هذا الخط هو الخيار الاستراتجي في حياة هذه الشخصية على الإطلاق. وأن تبرز أبعاد أخرى لهذه الشخصية إنما هي امتداد من هذا البعد، وما زاد في تأصيله وعيه وبصيرته النافذة في هذا المجال».
وأضاف: «لا أظن ولا يظن عاقل بأن شخصية تمتلك الثبات على الطريق وأن تكون رسالية بحق وأن تستعلي على الدنيا، مغرياتها وتحدياتها. لست أظن أن شخصية يمكن أن تمتلك ذلك كشخصية صنعها الدين. وليس المهم في الكلام، وإنما بالمضي في طريق يأمر الله به وهو أمر فوق كل الحسابات الدنيوية ».
ولفت قاسم إلى أن الشيخ الجمري بقي ثابتا على الخط الإلهي، ومن هذا البعد كان نهجه السياسي... وكان للشيخ الجمري مع بقية العلماء مساع لتحريك القضية وكان للظروف حكمها، وكان للكبار تقديراتهم، وهناك حديث عن الانتفاضة وحديث عن مواجهة الفساد، ليس بمعناه الاصطلاحي السائد ولكن بمعناه اللغوي العريض الشامل، أصل مواجهة الفساد في الأرض، المنكر والظلم وتهميش الإنسان لإنسان وأكل القوي للضعيفة، الميل عن خط الكون، العدل والتكامل، كل هذا الانحراف مواجهته فرض في الإسلام لا يتخلى عنه.
وأضاف: «أما الانتفاضة فأسلوب، والأساليب متعددة، والحكومات هي من تتحكم في هذه الأساليب، وبدأت المطالبة من خلال المسجد وبعد أن يأس الناس دفعهم الوضع إلى الانتفاضة وأخذت شوطها، وجاء يوم الميثاق واختار الناس أن يعطوا كلمتهم للميثاق على أمل الإصلاح». وقال قاسم: « إذا جئنا لتجربة المجلس النيابي التي وضعت الحكومة على المحك وأمام الامتحان العملي الجدي، وهو فرصة أمام الحكومة لتعزز في نفوس الناس الإيمان بقيمة الحوار وبقيمة الكلمة».
ونوه قاسم إلى أن « الشيخ الجمري أكبر من قضية وطن، لا يمكن أن نقوقعه في قضية وطن فضلا عن أن نقوقعه في قضية برلمان. سنبقى مدينين له لجهاده وصلابته، وتقديمه لمثل كبير في الصمود على خط الله، وقد علمنا تاريخ الإسلام بأن الرجالات من صنع الإسلام هم الأكثر تضحية».
وفي ختام الحفل عرض الجزء الأول من الفيلم الوثائقي (ملحمة الصمود) عن حياة الراحل الكبير الشيخ عبدالأمير الجمري على أن يستكمل الجزء الثاني مساء اليوم ضمن فعاليات إحياء الذكرى السنوية الأولى للرحيل.
العدد 1911 - الخميس 29 نوفمبر 2007م الموافق 19 ذي القعدة 1428هـ