أنهى «مؤتمر أنابوليس» أعماله من دون نتيجة تذكر. فالتوقعات التي سبقت انعقاده جاءت متطابقة إلى حد كبير مع نهاياته. والوثيقة الفلسطينية - الإسرائيلية التي صدرت بتدخل مباشر من الرئيس جورج بوش أعادت تكرار تلك البنود العامّة وتركت الباب مفتوحا للتفاوض الثنائي بإشراف أميركي. فالوثيقة نصت على البحث في كلّ المسائل الخلافية من دون أنْ تذكر تلك النقاط. كذلك حددت آليات عامّة تشجّع على تعزيز الاتصالات بمعدل مرة كل أسبوعين.
كلمة بوش أيضا كانت عامّة فهي تطرقت إلى المسائل الخلافية ولكنها تهرّبت من توضيح المسارات الواجب الدخول فيها لمعالجة تلك النقاط التي تعتبر أساس الصراع القائم في المنطقة. كذلك جاءت كلمات الوفود فهي استعرضت المشكلات وطالبت بحلها وشجّعت على فتح مختلف المسارات وعدم تغليب موضوع على آخر في اعتبار أنّ كل النقاط متصلة ببعضها.
المؤتمر إذا، كما أجمعت كلمات الوفود المشاركة، ليس المكان المطروح للتفاوض بقدر ما شكّل مناسبة رمزية دبلوماسية/ إعلامية لإطلاق شرارة البدء في التفاوض بعد جمود دام سبع سنوات. باريس مثلا دعت إلى عقد مفاوضات في العاصمة في 17 ديسمبر/ كانون الأوّل المقبل على أنْ تبدأ بعد لقاء ثلاثي أميركي فلسطيني إسرائيلي في 12 الشهر المقبل. موسكو بدورها دعت إلى استئناف «مفاوضات انابوليس» في العاصمة الروسية لبحث مجموعة نقاط ساخنة تشكّل عقدة تمنع الأطراف التفاهم على حل عادل ومعقول.
استئناف التفاوض يعتبر في «قاموس أنابوليس» الفكرة الوحيدة الناجحة التي توصل إليها المجتمعون. والفكرة ليست جديدة حتى لو أنها حددت سنة فترة زمنية للاتفاق الفلسطيني - الإسرائيلي. فالمؤشرات تدل على أنّ «إسرائيل» ليست عازمة على الحل حتى لو وافقت شكليا على استئناف التفاوض. وكلّ المراقبين يؤكدون أنّ العام 2008 سينتهي من دون التوصّل إلى اتفاق، وخصوصا أنّ تل أبيب أخذت تركّز على فكرة «إسرائيل دولة يهودية»، وهذا يعني أنها غير قادرة على تقبل موضوع عودة النازحين الفلسطينيين وربما تفكّر في إعادة النظر في الوجود الفلسطيني (مليون ونصف) في الأراضي المحتلة في العام 1948.
استئناف التفاوض يفتح الباب على احتمالات التهدئة أو التصعيد أو التفجير أو إعادة الاحتلال أو إدخال المنطقة في شروط تقفل الطريق أمام إمكانات الحل. والاستئناف ليس خيارا سياسيا بقدر ما هو محاولة للتهرّب من الاستحقاقات وتأجيل البحث فيها إلى مواعيد زمنية لاتلزم الأطراف بتوقيعات أو تنازلات تنسجم مع القرارات الدولية.
تأجيل الحلول طرح أمام الأوساط المتابعة مخاوف كثيرة طغت على مسحة التفاؤل. فالتأجيل يعني ترك الأمور على حالها من دون حل. وهذا الأمر في المدى المنظور يؤشر على تجميد الأزمات تحت سقف اللا حرب واللا سلم وعدم تحريك الملفات بانتظار تبلور صورة المواقف الدولية والإقليمية.
الانتظار، ماذا يعني في «قاموس أنابوليس»؟ تأجيل الحلول بذريعة استئناف الحوار أم الالتفاف حول الملفات الساخنة وإجراء اتصالات ثنائية تمر في قنوات سرية وضيّقة وبعيدة عن الأضواء.
الاحتمالات كلّها واردة باستثناء السلام العادل والشامل الذي يبدو أنّ الولايات المتحدة لا تريده الآنَ ولا في نهاية السنة المقبلة. وهذا بالضبط هو المقصود من تأجيل الحلول واستئناف التفاوض. فهذه المعادلة سلبية ومضمونها يشتمل على احتمالات ربما تذهب باتجاه التصعيد أو التهدئة أو تجميد الأزمات تحت سقف اللاحل (اللاحرب واللاسلم).
مخاوف لبنانية
إلا أنّ هذا الفضاء العام لا يمكن أخذه من دون قراءة ثانية لوقائع جرت في «مؤتمر أنابوليس». فالقاعة حشدت أكثر من 40 وفدا بينهم 16 دولة عربية. وسورية كانت من بين الدول الحاضرة في المؤتمر. وحضور دمشق أرسل إشارة تضمنت الكثير من المعاني والاحتمالات. وهذا ما بعث المخاوف وجدد أسئلة قديمة عند مختلف الأطراف اللبنانية. القوى اللبنانية أخذت تقرأ أجوبة جاهزة ونهائية عن وجود صفقة أميركية - سورية أو صفقة إسرائيلية - سورية بضمانة أميركية. بعض تلك القوى يتخوّف من تكرار سيناريو 1976 (لبنان مقابل الجولان). والبعض يستبعد هذا الاحتمال ويرجّح سيناريو آخر يعطي دمشق دورها السياسي الخاص في لبنان من دون إعطاء ضوء أخضر لإعادة إدخال قواتها إلى البلد الصغير من جديد. والبعض ينفي هذا الاحتمال ويؤكّد أن الولايات المتحدة ليست الآن في وارد تجديد الصفقة السورية - الإسرائيلية؛ لأنها أصبحت حريصة على حماية «الديمقراطية» الوحيدة في المشرق العربي وبالتالي لن تقبل واشنطن التفريط بذاك «النموذج» الخاص الذي تعتمد عليه لتحسين صورتها المشوشة في المنطقة.
الكلام عن صفقات سورية - إسرائيلية برعاية أميركية ليس جديدا على التفكير اللبناني فهو يستند إلى تجارب سابقة وليس بالضرورة يعتمد على معلومات. فالصفقات ظنية وليست مقرونة حتى الآنَ بالأدلة التي تؤكد هذا الاتجاه أو ذاك . ولكنّ التجارب التي مرّ بها البلد الصغير في العقود الثلاثة الأخيرة رفعت من درجات الاستنفار السياسي وزادت من قلق الأطراف ومخاوفها. فالكلام اللبناني يطرح مجموعة احتمالات تحاول أنْ تقرأ معاني إجراء تلك المكالمة الهاتفية بين الرئيسين الفرنسي والسوري وزيارة العاهل الأردني إلى دمشق وصدور بيان مشترك أشار إلى نقاط حسّاسة تهم مختلف اللبنانيين.
المهاتفة والزيارة حصلتا قبل «أنابوليس» ومهدّتا الطريق لتوجيه الدعوة إلى دمشق ووضع ملف الجولان على جدول أعمال المؤتمر. كلّ هذا شجّع سورية على الحضور وأدخل اللبنانيين في أسئلة تحاول أنْ تفسّر لماذا وافقت دمشق على المشاركة في المؤتمر؟ وما هو الثمن الذي قبضته أو طالبت واشنطن بتسديده في حال توجّهت إلى أنابوليس؟
اللبنانيون ينتظرون موعد انتخاب الرئيس والاتجاه الذي ستسير فيه القوى المتحالفة مع دمشق؛ لترسيم صورة تلك الصفقة المفترضة. فالانتخاب الذي تقررت جلسته الأخيرة غدا (الجمعة) أوعدم الانتخاب يوضحان معالم طريق أطلق عليه السفير الأميركي في بيروت وصف «الفراغ الهادئ».
«الفراع الهادئ» يقلق اللبنانيين وينعش الذاكرة بوجود صفقة ليست بالضرورة أنْ تكون متطابقة في أوصافها وشروطها مع تلك التي حصلت في العام 1976 ولكنها لابدّ أنْ تكون قد أخذت في الاعتبار الدورالسوري الخاص في صوغ السياسة اللبنانية الداخلية.
هذا الاحتمال في حال أثبتت الأيام المقبلة صحته سيضع لبنان على مشارف منعطف سياسي ربما يعيد النظر في مجموعة ملفات مطروحة تبدأ بتجميد «المحكمة الدولية» أو المماطلة بها، وتنتهي بموضوع «سلاح حزب الله» وغيره من نقاط ساخنة تتصل بالوجود الفلسطيني والمخيّمات والتوتر الدائم على الحدود الدولية بين لبنان و»إسرائيل».
المخاوف اللبنانية ليست بالضرورة صحيحة وتستند إلى معلومات، ولكنها تعكس سلسلة وقائع تعود بالذاكرة إلى محطات صعبة مرّت بها بلاد الأرز في فترات سابقة. وبغض النظرعن صحة التوقعات ومدى اقترابها أو بعدها عن الهواجس يشكّل حضور دمشق «مؤتمر أنابوليس» نقطة مثيرة للانتباه لكونها تخاطب أكثر من فريق وترسل إشارات متعارضة إلى جهات مختلفة. فالمشاركة السورية أربكت فريق «8 آذار». كذلك أجهضت فكرة المقاطعة التي دعت إليها إيران و»حماس» وحزب الله. وفي المجموع أدّت الخطوة إلى إطلاق أسئلة تنتظر أجوبة لاتزال حتى الآنَ ناقصة!
عدم الوضوع حاول الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز الإجابة عنه في تصريح أدلى به قبل يومين وأشار فيه إلى وجود اتصالات ورسائل متبادلة بين دمشق وتل أبيب. وتوضيح بيريز ليس بالضرورة أنْ يكون هو الجواب الصحيح لمجموعة أسئلة مطروحة أخذت تزعزع الثقة بين أطراف متحالفة وتثير الفزع في وسط جهات اتخذت مواقف سلبية من دمشق في السنوات الثلاث الماضية.
هذه الصورة المبهمة تشبه كثيرا تلك النتائج الغامضة التي توصّل إليها «مؤتمر أنابوليس». فالمؤتمر دعا إلى استئناف التفاوض وتأجيل الحلول بانتظار تبلور صيغة نهائية للتفاهمات في نهاية السنة المقبلة. وهذا النوع من النتائج التي تفتقر إلى الوضوح وتفتقد إلى ثوابت تلعب دورها دائما في خلط الأوراق وترتيب أولويات ودفع الأطراف إلى نزاعات تعطي ذريعة ميدانية لمنطق تأجيل الحلول الذي يعتمد على آليات أطلق عليها في «أنابوليس» استئناف التفاوض.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1910 - الأربعاء 28 نوفمبر 2007م الموافق 18 ذي القعدة 1428هـ