إعلان الحكومة السورية عزمها المشاركة رسميا في «مؤتمر أنابوليس» الذي يعقد في ولاية مريلاند الأميركية يفتح الباب أمام قراءات تفترض احتمال حصول «تحولات ما» في الأسابيع المقبلة.
دمشق اشترطت قبل الموافقة على حضور «المؤتمر» أن يدرج ملف الجولان على جدول الأعمال وأن توجه دعوة مباشرة لها. الشرطان واضحان في استهدافاتهما السياسية: الأول يؤشر إلى وجود رغبة أميركية - إسرائيلية في العودة إلى التفاوض بشأن المسار السوري بعد مرور وقت على تراجعه لمصلحة المسار الفلسطيني. والثاني يرسل إشارة إلى وجود استعداد أميركي للبدء في إعادة العلاقات مع سورية إلى إطارها الطبيعي بعد الاضطراب الذي سادها على أثر اغتيال رئيس الحكومة اللبناني السابق رفيق الحريري.
الموافقة السورية إذا جاءت بعد أن لبّت واشنطن الطلبين، فهي اظهرت استعدادها للبحث في ملف الجولان بموافقة إسرائيلية. وهي وجهت دعوة مباشرة وليس بالواسطة إلى دمشق لحضور المؤتمر.
تلبية واشنطن الشرطين السوريين تطرح اسئلة كثيرة بشأن مسار العلاقات الثنائية بعد الانتهاء من جلسات «أنابوليس». الولايات المتحدة لا تراهن على المؤتمر، كذلك الدول العربية والسلطة الفلسطينية ودمشق. و «إسرائيل» بدورها حاولت المستحيل لمنع وقوعه؛ لأنها تدرك سلفا أنها الطرف المطالب بالإجابة عن أسئلة السلام في المنطقة.
«أنابوليس» ليس مهما فهو مجرد محطة عابرة في سلسلة حلقات شهدت مفاوضات على مختلف الأصعدة والمستويات. المهم هو ماذا بعد «أنابوليس»؟ وما القنوات التي ستمر بها العلاقات الأميركية - العربية، والأميركية - الفلسطينية، والأميركية - السورية، والأميركية - الإيرانية، وأخيرا الأميركية - اللبنانية؟
كل الأطراف المشاركة تعتبر «أنابوليس» مجرد محطة إعلامية تشكل مناسبة لبدء فتح صفحات جديدة في العلاقات الثنائية. وبما أن الثنائيات كثيرة ومتعددة فيرجح أن تشهد المنطقة خطوة حاسمة في إعادة خلط الأوراق أو على الأقل إعادة الأوراق إلى وضعها السابق مع إدخال تعديلات على أولوياتها.
الولايات المتحدة هي الطرف الوحيد الذي يتصل بكل الأطراف وبالتالي هي الجهة الأكثر علما أو اطلاعا على رغبات وتوجهات القوى العربية والاقليمية في المنطقة. وبسبب هذا الموقع المطل على مختلف الجهات تمتلك واشنطن قدرات خاصة على التأثير وإدارة كفة التنافر أو الصراع نحو هذه الوجهة أو تلك. أميركا في لبنان مثلا تتصل بالجميع وتفتح قنوات حوار وتفاوض مع فرقاء «8 و14 آذار» من دون تمييز بين من ينتقد السياسة الأميركية أو يمدحها. وأميركا في فلسطين تتصل بكل الاتجاهات من دون تمييز بين الضفة وغزة. وأميركا أيضا على اتصال دائم بكل القوى الفاعلة في المنطقة في وقت تدعم فيه «إسرائيل» في السراء والضراء. وهي على اتصال مع كل الفئات العراقية في الشمال والجنوب والوسط والغرب حتى لو أظهرت أحيانا انحيازها لهذا الطرف أو ذاك. حتى على مستوى الملفات الأمنية (ذات الطابع السياسي بالتأكيد) فإن واشنطن على اتصال وتنسيق «فني» و «تقني» مع دمشق وطهران.
إدارة جورج بوش لم تقطع اتصالاتها مع فريق ضد آخر ولكنها استخدمت بالحدود السياسية المعقولة مختلف الأوراق في إطار خطة مبرمجة أوصلت المنطقة إلى ما وصلت إليه.
الآن كما يبدو انتهت مرحلة من اللعبة. واللعبة دائما تحتكم إلى قواعدَ تلتزم شروطا سياسية محددة ليست بالضرورة متطابقة مع فترات سابقة ولكنها أيضا لا تشكل حالة قطع مع تلك الفترات. فالإعادة واردة مع تعديلات. والتعديلات المفترضة تحتمل التأويل الذي قد يصيب في رؤيته وقد لا ينجح في توضيح صورة مكتملة عن مرحلة مقبلة.
جديد «الشرق الأوسط»
هذا «الجديد» الذي ظهر على مسرح «الشرق الأوسط» في اليومين الماضيين يطرح أسئلة ويستدعي أجوبة افتراضية. لماذا وجهت واشنطن دعوة إلى دمشق للحضور تتضمن موافقة مبدئية على بحث ملف الجولان؟
احتمالات كثيرة يمكن استعراضها في القراءة المنهجية للرد. أولا، هناك رغبة إسرائيلية في الدعوة لأنها تخفف الضغط العربي - الفلسطيني على تل أبيب وترفع عنها مسئولية التفاوض بشأن «الدولة» الفلسطينية. كذلك تساهم الدعوة في تخفيف ضغط الجبهة اللبنانية على تل أبيب وتعيد ترتيب تحالفات تحد من أنشطة القوى الممانعة في البلد الصغير.
ثانيا، هناك رغبة عربية مشتركة في توجيه الدعوة؛ لأن سورية تشكّل ذاك الموقع الأمامي في معادلة اللاحرب واللاسلام وبالتالي يشكل عزلها خطوة قد تعطل إمكانات التفاهم على حد أدنى على جبهات مختلفة.
ثالثا، هناك رغبة أميركية في توجيه الدعوة؛ لأنها تعتبر استجابة لتوصيات وردت في تقرير بيكر - هاملتون بشأن اخفاقات الحرب على العراق. والدعوة تشكّل من وجهة نظر أميركية خطوة قاسية لابد منها لإبعاد دمشق عن طهران أو على الأقل تقليل نسبة التحالف وخفض مفعوله إلى حده الأدنى.
الاستهدافات متنوعة وكلها تقع تحت سقف الرغبات وليست بالضرورة تعكس سياسة نهائية بهذا الاتجاه أو ذاك. حكومة إيهود أولمرت رحبت بالدعوة وموافقة دمشق على تلبيتها؛ لأنها ترى فيها مناسبة لإعادة فتح حوار انقطع وربما تستخدمه سياسيا لتخفيف الضغط على تل ابيب من الجهتين الفلسطينية واللبنانية. وإدارة بوش وافقت على توجيه الدعوة بناء على رغبة عربية مشتركة وحاجة إسرائيلية مؤقتة ومطلب أميركي داخلي يلبي توصيات وردت في تقرير بشأن العراق.
يبقى سؤال: كيف تقرأ دمشق الدعوة؟ وما الثمن الذي تريده العاصمة السورية مقابل الحضور إلى مؤتمر لا قيمة عملية له؟
أجوبة كثيرة يمكن وضعها وكلها نظرية وافتراضية وخاضعة للتأويل أو الاستئناف. دمشق تدرك أن الجولان لن يعود إليها في القريب العاجل لأسباب مختلفة. ولكنها في المقابل تملك مجموعة أوراق يمكن طرحها على طاولة التفاوض وفي أمكنة بعيدة عن «أنابوليس» كذلك تواجه مجموعة أوراق تشكل ضغطا عليها تتمثل في «المحكمة الدولية» و «الانتخابات الرئاسية» و «الإزعاجات اللبنانية». أوراق مقابل أوراق وهذا يعني أن الدعوة قد تتجاوز مؤقتا ملف الجولان وتتوجه فورا إلى معالجة تلك الأوراق على طاولة تفاوض في منطقة ليست بالضرورة أن تكون أميركية.
مسألة الجولان مطروحة وغير مطروحة، ولكنها في الإطار الثنائي الأميركي - السوري تشكل مناسبة للتفاوض على نقاط آخرى قريبة من الجولان وبعيدة عنه. الدعوة الأميركية والتلبية الفورية السورية تفتحان الباب فعلا أمام قراءات تفترض احتمال حصول «تحولات ما» في الأسابيع المقبلة. إلا أن الخطوة العاجلة في هذا السياق النظري تفترض معالجة عينة مباشرة تعطي فكرة سياسية عن تصورات غير مباشرة أو قريبة. وهذه الخطوة تتمثل في المسار الأميركي - السوري وتعامله مع الرئاسة اللبنانية التي تأجّل انعقاد جلساتها إلى نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري.
التأجيل إلى ما بعد الانتهاء من الصور التذكارية في «أنابوليس» أعطى إشارة واضحة إلى وجود نية في الدعوة ورغبة سورية في التلبية. وهذا الأمر يفترض أكثر من احتمال. وبما أن المسألة مجرد توقعات فإنه بالإمكان الانتظار إلى ما بعد «أنابوليس» لتوصيف الاتجاه الذي ستسير نحوه الانتخابات الرئاسية تمهيدا لمعرفة مسار الثنائيات الأخرى.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1908 - الإثنين 26 نوفمبر 2007م الموافق 16 ذي القعدة 1428هـ