ليس عصيّا أنْ تستمع لأنباء الملف النووي الإيراني؛ لكن العَصِي هو إرهاصات تلك الأنباء ومآلاتها وطبيعة الفِعل المُحرّك لثيماتها. حقيقة أرى أنها جديرة بأن تُدرك، وهي أنّ قيمة الخبر الإيراني (والنووي بالتحديد) لا تُزَكّى إلاّ بمحاذاتٍ مُمتدة له عبر حفر ممرّين مزدوجين يتلقّفان ما يسقط من أعلى الخبر لتتمّ إعادته نحو دفوع الواقع السياسي المُتشكّل أصلا على أرضية المصالح وقوة الردع وتفسيره لاحقا بامتداداته السابقة. وقد تبيّن من خلال المتابعة الحثيثة أنّ هذا الملف لا يحمل بعدا واحدا يُصاغ في عمومه من نواحي فنيّة وسياسية وقانونية بحتة؛ وإنما بحمولات أخرى تتعسّر حينا وتتيسّر أحيانا أخرى طبقا للظروف الدولية، وهذه الحمولات بطبيعتها لا تختص بمسار مُحدد في العلاقات بين الدول وإنما بعدّة مسارات تتغذّى على مفاعيل المُجتمعات المدنية والصناعية في تلك الدول، وما يجمع تلك الجيوب بأطراف أخرى قد تعيش خارج أقطارها، وهو ما يجعل هذا الملف مُعقّدا جدا بحيث لا يتم تحريكه إلاّ بعد تحريك التحالفات الدولية ومراعاة الموائمات الحذرة القائمة بينها. ومن قُيِّضَ له أنْ يُتابع التقرير الأخير الذي قدّمه المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي في الخامس عشر من الشهر الجاري وما سبقه وما تبعه من حراك دولي يُمكن أنْ يُدرك طبيعة وحجم التشكابك في هذا الملف الذي مضى على تفاقمه خمس سنوات خلت، وأيضا طبيعة الاستثمارالإيراني والدولي له، سيُدرك تلك الحقيقة جيّدا، فالتقرير الذي قُدّم إلى مجلس الأمن في تسع صفحات لم يُدِنْ إيران ولم يُبرأها لكنه أعطاها مساحة جيّدة من المناورة ووقتا كافيا؛ لأن تلتقط أنفاسها مع الوكالة في الشّقّين الفني والحقوقي، ولم يبق أمامها إلاّ أن تضمن طبيعة ونتائج التقرير اللاحق الذي سيُقدّمه مُنسّق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي خافيير سولانا لمجلس الأمن والذي سيسبقه اجتماع مهم بين الأخير وسعيد جليلي المفاوض الإيراني الجديد في الثلاثين من الشهر الجاري، والسعي إلى تحييد أطراف دولية فاعلة، وأيضا إعاقة أية تمالأ أميركي أوروبي في هذا المجال، على رغم أنّ هذا الخيار أضحى أقلّ تأثيرا من السابق بعد الانبطاح الفاضح للسياسة الساركوزية مع الولايات المتحدة . الإنجاز الأهم الذي ناله الإيرانيون في هذا التقرير هو اعترافه بأن النص القانوني الملحق بمنشآت نطنز والمتعلق بعمليات التفتيش النهائية التي تم تنفيذها، واستعداد الوكالة لتحويل الوقود النووي لمحطة بوشهر بالتنسيق مع الحكومة الروسية. من الأمور الأخرى التي خصّها التقريرهو تقييمه للمرحلتين الخاصّتين بالملف النووي الإيراني، وخصوصا المرحلة الأولى التي تمتد إلى العشرين سنة الماضية وبالتحديد إلى بداية عمليات التخصيب في العام 1984 حيث بيّن التقرير مطابقة معلومات الوكالة الدولية مع المعلومات التي قدّمتها الجمهورية الإسلامية بشأن أجهزة الطرد المركزي بي 1 وبي 2، أمّا بخصوص الموضوعات الستة التي تمّ الاتفاق عليها بين كبير المفاوضيين الإيرانيين السابق علي لاريجاني وخافير سولانا فقد تمّ حلحلة موضوعين مهمين فيها وهما معالجة موضوع البلوتونيوم التي تمّ الانتهاء منه عمليا في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي وقضية تلوث أجهزة الطرد المركزي بيورانيوم عالي التخصيب (على رغم أنّ التقرير الأخير قد وصف الإجابة الإيرانية عليها بغير الطوعية ولا تحمل صفة المبادرة) بالإضافة إلى تطابق عمليات التخصيب وعمل أجهزة الطرد مع نظام الأمان والمرفق المتعلق بالمنشآت النووية خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وأيضا تقديم طهران لوثيقة اليورانيوم المعدني وتحويله إلى أشكال كروية تستخدم في صنع رؤوس نووية والتي تقول: إنها كانت ضمن صفقة ضخمة حصلت عليها في وقت سابق من السوق السوداء وهي ذات الوثيقة التي كانت تُطالب بها الوكالة الدولية منذ سنتين، وربما يبقى الحديث مُنصبّا الآنَ على البلوتونيوم 210 ومنجم كجين لإتمام تسوية شاملة لهذا الملف الشائك. أمّا الأمور التي أشار إليها التقرير واستند إليها الأميركيون في تسويقهم لفرض عقوبات جديدة على طهران عبر استصدار قرار ثالث فهي تشييد إيران بنية أساسية لإقامة مراكز تكنولوجية في محافظة أصفهان وكرج ومواصلتها التخصيب الصناعي وتشغيل مفاعل الماء الثقيل في أراك، وهي جميعها مشروعات مُعلنة من جانب إيران، منذ ولاية خاتمي الثانية.
على المستوى الدولي فقد بدا الموقف الأميركي متمايزا في راديكاليته على باقي الأطراف من الحلفاء بعد وصف السفير الأميركي لدى الوكالة غريغوري شولته التقرير « بغير الإيجابي» داعيا مجلس الأمن لأن يتحرك لإصدار قرار عقوبات جديد، وبعد تصريح قائد القيادة الأميركية في المحيط الهادئ القائد السابق للعمليات البحرية الأميركية في الخليج، الإميرال تيموثي كيتنغ، بأن الآلة العسكرية الأميركية لم تضعف بعد أربع سنوات من القتال في العراق، وأنها مستعدة أكثر من أي وقت مضى لمواجهة أي تهديد إيراني. من أبرز سمات ذات التمايز هو تصريحات المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل خلال زيارتها الأخيرة لواشنطن حين أبدت تأييدا رماديا للأميركيين، وأيضا بقاء الأسبان في منزلة بين منزلتين، وفي الأقطاب الدولية كان غياب الصين عن اجتماعات مساعدي وزراء خارجية مجموعة الـ (5+1) في بروكسل والمؤلفة من (الصين وأميركا وبريطانيا وروسيا وفرنسا بالإضافة إلى ألمانيا) لدراسة الملف النووي الإيراني سببا في تأجيل الاجتماع إلى أجِلٍ غير مسمّى، وكان تحذير السفير الأميركي في الأمم المتحدة زلماي خليل زاد لبكين واضحا عندما اتهمها بتحمل مسؤولية فشل المساعي الدبلوماسية في تسوية أزمة الملف النووي الإيراني إذا ما عارضت فرض عقوبات جديدة على طهران، مع الإشارة هنا إلى أن واشنطن إذا ما أرادت أنْ تُبعد الصين على الأزمة النووية الإيرانية فعليها أنْ تُعوضها عن حقول جنوب إيران المطلة على الخليج وعن الشمال الإيراني القادر على إيصال بكين إلى تخوم بحر قزوين وأيضا عبر تعويضها عن المئة وعشرين مليار دولار هي قيمة صفقات الطاقة بين البلدين. المشكلة الأخرى التي يجب على الولايات المتحدة الأميركية تسويتها هي مع إيطاليا التي بدأت في النأي بسياساتها عن الدبلوماسية القاسية فضلا عن الخيارات العسكرية بعد مجيء برودي إلى الحكم، فإيطاليا هي أهم شريك تجاري أوربي مع إيران، وقد أعلن رئيس المجموعة النفطية الإيطالية «إيني» باولو سكاروني لصحيفة «فايننشال تايمز» قبل أسبوع بأن مجموعته ستواصل نشاطاتها في إيران، على رغم الضغوط الأميركية لوقف الاستثمارات في هذا البلد.
خلال الكلمة التي ألقاها سعيد جليلي في مؤتمر» البرنامج النووي الإيراني وتقرير البرادعي» الذي عُقِد في كلية العلاقات الدولية التابعة لوزارة الخارجية الإيرانية يُمكن تلمّس بداية الاستثمار الإيراني لتقرير البرادعي القائم على تنميط عملية التوتر، مع تزويدها بمبادرات مُحيّنة قد لا يكون فيها جديد سوى أنها آكلة للوقت.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1907 - الأحد 25 نوفمبر 2007م الموافق 15 ذي القعدة 1428هـ