أيام ويبدأ «مؤتمر انابوليس» أعماله ويُقال إنه لن يتجاوز الساعات. فهل يمكن الرهان على ساعات لتفكيك أزمات مرت عليها السنوات والعقود؟ الرد المنطقي يميل إلى خفض التوقعات إلى حدها الأدنى. والأدنى يمكن أنْ يواصل هبوطه إلى الصفر تقريبا.
النتيجة صفر يمكن توقعها من الآنَ. وكلّ ما يرتفع عن تلك النتيجة يصعب الرهان عليه قاعدة صلبة تسمح باطلاق موجة تفاؤل بشأن مستقبل التفاوض واحتمال التوصّل إلى تسوية تمهد الطريق إلى السلام أوّلا والتطبيع ثانيا. فالمؤتمر يفتقد إلى عناصر التلاقي التي تسمح بإمكان نجاحه في تحقيق اختراق.
المؤشرات المتباينة توضح صورة ملتبسة عن مؤتمرلم تكتمل بعد شروط نجاحه. والإسراع في الدعوة إلى حضور جلسات «أنابوليس» يبدو أنه جاء تلبية لضغوط أميركية داخلية أرادتها إدارة جورج بوش لتغطية سياسة خارجية فاشلة.
احتمال نجاح «مؤتمر انابوليس «مسألة غير واردة في ظل الظروف الدولية والإقليمية والشروط الإسرائيلية وعدم وضوح الموقف الأميركي في التعامل الموضوعي مع الأطراف والقوى المعنية بالصراع. فإدارة واشنطن مترددة وهي لم تصل بعد إلى موقع يسمح لها بالإعلان عن استعدادها للضغط على تل أبيب وإجبارها على الاعتراف بالقرارات الدولية والتزامها بتنفيذ بنودها الواضحة في تفصيلاتها. وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس كررت في المدّة الأخيرة سلسلة تصريحات تشير إلى أنّ واشنطن ليست في وارد الضغط على تل أبيب بشأن الحل المطلوب للمسألة الفلسطينية أو موضوع الجولان. كلّ ما التزمت به رايس أنها ستؤكد عزم الرئيس بوش على مواصلة جهوده لتأمين شروط قيام «دولتين». وهذا العزم الذي وعدتْ به رايس يفتقر إلى مؤشرات تثبت وجوده سياسيا وميدانيا.
الأمر الثاني الذي وعدت رايس باحتمال التوصّل إليه يقتصر على تكرار وعود بشأن إمكان إقناع تل أبيب بأنها مستعدة على القبول بصيغة تفاوض فد تؤدّي إلى تسويات خلال الشهور المقبلة... أي قبل نهاية ولاية بوش الثانية. وهذا الوعد بحاجة إلى تدقيق؛ لأن وضع بوش في الأشهر المقبلة سيكون عرضة لضغوط داخلية تتحكم في شروطها مجموعة مصالح حزبية تتصل باقتراب موعد انتخابات الرئاسة الأميركية.
المسألة ليست غامضة حتى تكون التوقعات متفاوتة بين احتمالات النجاح وإمكانات الفشل. فالفشل أقوى؛ لأنه يعتمد على عناصر موضوعية بينما النجاح مستبعد؛ لأنه يقتصر على مجموعة وعود لا تستند إلى إرادة صارمة ومصممة على الخروج بنهايات جيّدة وثابتة.
نجاح «أنابوليس» أوفشله لا يحتاجان إلى الكثير من التأويل والتفسير. الاحتمالان غير واردين معا. فهناك إمّا النجاح أو الفشل. والفشل أقوى في عناصره ومؤشراته؛ لأنه ينطلق من وقائع ميدانية وقرارات حقوقية ترفض تل أبيب الأخذ بها.
سقف قاعة «انابوليس» تتحكم به ثلاثة أسئلة: ماذا تريد الدول العربية من المؤتمر؟ وماذا تريد حكومة ايهود اولمرت منه؟ وماذا تطلب الولايات المتحدة من الدعوة إليه؟
أجوبة الأسئلة
في ضوء الأجوبة الثلاثة يمكن التوصّل إلى ترسيم حدود الصورة التي يتوقع أنْ يخرج بها «مؤتمر أنابوليس».
الدول العربية واضحة في مطالبها فهي أكّدتها بالإجماع في قمّة بيروت وأعادت تأكيدها في قمّة الرياض. وملخص المطالب العربية يقتصر على ضرورة الالتزام بالقرارات الدولية التي تنصّ بنودها الواضحة على تطبيق ما توافقت عليه الأمم المتحدة من حقوق للشعب الفلسطيني والتراجع عن الأراضي المحتلة العربية والفلسطينية مقابل السلام العادل الذي يسبق تطبيع العلاقات.
«إسرائيل» مرتبكة ومستقوية بالدعم الأميركي، وهي أساسا لا تريد المؤتمر وتتمنى عدم انعقاده وتعمل سرا وعلنا على إفشاله حتى لا تضطر إلى كشف أوراقها من جديد. وحكومة أولمرت لاتزال تعاني من آثار تلك الصفعة التي تلقتها في عدوان صيف 2006 على لبنان وهي الآنَ في وضع لا يسمح لها بإعادة النظر في ثوابت ترى أنها تشكّل قاعدة صلبة لاستمرار تماسكها السياسي والديموغرافي (السّكاني) والإيديولوجي. ومثل هذه الحكومة غير قادرة على اتخاذ موقف واضح في ظل تردد رئيسها الذي مانع ومنع صدور مجرد «اتفاق إطار» يحدد خطة عمل زمنية وميدانية تسمح بإنشاء «دويلة» فلسطينية في المستقبل القريب أو البعيد.
إدارة بوش تتجاذبها الرياح يمنة ويسرة بين ما تبقى من تيار «المحافظين الجدد» الذي يراهن على إفشال الدعوة حتى يعيد إنتاج استراتيجية التصعيد التي تضع ضمن مشروعها استكمال خطط تقويض دول الجوار العراقية وبين تيار ما يسمى بالواقعية السياسية الذي يراهن على إعطاء فرصة للسلام توفر على الولايات المتحدة خوض مغامرات عسكرية غير محسومة في نتائجها السياسية.
حتى الآنَ لم تحسم إدارة بوش خياراتها الأخيرة وهي لاتزال في حال صراع مع الوقت. والوقت لايعمل لمصلحة واشنطن. لذلك يرجّح أن تكتفي الإدارة بالحد الأدنى من النتائج التي تعتبرهـا مادة إعلامـية يمكن استخدامها للظهور أمام الشارع (الناخب ودافع الضـرائب) مـن موقع الطرف القادرعلى التحكّم بقواعد اللعبة وشروطها.
الأجوبة الثلاثة تعطي عيّنة سياسية عن احتمال نجاح «انابوليس» أو فشله. فالأطراف الثلاثة المعنية مباشرة بالحل غير متوافقة على شروط الحل. الدول العربية تطرح مجموعة نقاط واضحة وهي تتصل بعودة الفلسطينيين وتفكيك جدار الفصل العنصري والمستوطنات والمستعمرات وإعادة الأقصى الشريف وإعلان دولة عاصمتها القدس بالإضافة إلى ترسيم الحدود العربية - الإسرائيلية في إطار مشروع سلام شامل يسبق التطبيع.
كلّ النقاط الواردة في مبادرة السلم العربية ترفضها تل أبيب. وحكومة أولمرت لم تظهر مرة واحدة استعدادها لعودة الفلسطينيين أو تفكيك المستوطنات والجدار والانسحاب من الأراضي المحتلة الفلسطينية والعربية. باختصار حكومة أولمرت لا تريد «انابوليس» وهي ترى فيه محاولة للضغط النفسي عليها في وقت تصر على ضرورة التطبيع قبل السلام.
الولايات المتحدة في شقيها الجمهوري الحاكم والديمقراطي المعارض لم تظهر استعدادها للتخلي عن دعم «إسرائيل» أو على الأقل الضغط عليها لتقديم تنازلات تتعدى الأطر الشكلية وتذهب بعيدا نحو سلام حقيقي وعادل.
أيام قليلة ويبدأ «مؤتمر أنا بوليس» أعماله قي ولاية مريلاند الأميركية وكلّ الكلام عن إمكانات النجاح تبدو مردودة في حال تم الاحتكام إلى الواقع الميداني وتلك الصيغ المطروحة على طاولة التفاوض.
فالمؤتمر أساسا لا توجد فيه «طاولة للتفاوض» وإنما منابر إعلامية لإلقاء الخطب والكلمات والإفاضة في توضيح وجهات نظر باتت معروفة وجرى تداولها مرارا في لقاءات وصدرت بشأنها قرارات ووقعت بصددها اتفاقات... وكلها تم تجاهلها وأحيانا تمزيقها.
«مؤتمر أنا بوليس» الذي وافقت 16 دولة عربية على حضوره يعتبر مجرد محطة إعلامية أرادت منها إدارة بوش التغطية على فشل سياستها الخارجية والتعويض عنها باللجوء إلى حفل إعلامي يُراد منه توجيه رسالتين: الأولى إلى الداخل قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية، والثانية إلى الخارج قبل أسابيع من الإعلان عن سياسة ربما تخلط الكثير من الأوراق المتداولة حاليا في الساحتين العربية والإقليمية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1907 - الأحد 25 نوفمبر 2007م الموافق 15 ذي القعدة 1428هـ