التقيته أثناء عزاء خالي المرحوم محمد عبدالله خاجة بعد أن كان مدرسي السابق في مقررات «التربية الإسلامية» أثناء المرحلة الدراسية الثانوية، وذلك بعد طول فراق لم ألمس خلاله صورته وهيئته إلا وهو على ضفة طارئة بدا من خلالها عازما على الترشح للمقعد النيابي على رغم أنني لا أخبر له توجها واهتماما جديا بالسياسة من اهتمام بالملفات والقضايا الدنيوية، وبملوثاتها المصلحية من مساومات وصفقات!
جاءنا بالهيئة ذاتها لم يتغير منه شيء على رغم أنه أصبح نائبا ووجيها، فالمشية ذاتها، وكذلك الحس الفكاهي الساخر العاكس لخفة دم حقيقية قلَّ وجودها أيضا لايزال حاضرا بقوة في مشهد الأستاذ السابق والنائب الحالي أينما حل وارتحل!
ما هو موقع هذا الأستاذ الفاضل الذي طالما عهدناه بعيدا عن منغصات السياسة التي تكدر وتعكر الحياة وتفقدها بهاءها ورونقها الروحي و «الرباني»؟! ما هو موقعه الآن من معسكرات الإعراب السياسي الحزبي في زمن الرداءة والسفالة الطائفية التشطيرية التي لم تشهد مثلها البلاد وأهلوها؟!
أخبرت ورأيت واطلعت أنه دخل ضمن قائمة قد لا تبشر بالخير أبدا لسمعتها «الطيبة» جدا في برلمان 2002، وما صاغته من نماذج «مشرفة» للإثارة والإلهاء والبناء المصلحي الفردي والتأسيس لحواضن مؤسسية للاستثمار الفئوي أولا وآخرا خلف الكواليس، وهم الآن في تحالف «وتدي» أتى فوقيا مع شقيقتهم الأخرى في الرضاعة السلطوية!
هذا الأستاذ كان لقائي به، والذي أتى عابرا في مجلس عزاء خالي، أشبه ما يكون بعزاء آخر داخل مجلس العزاء، فكأنما هناك مجلس واحد بعزاءين مزدوجين!
حمدا لله أنه سنحت لي الفرصة أن أدردش معه بإيجاز عن ظروف المواطنين الصعبة وأهمية الوحدة الوطنية والبعد عن الطرح التقسيمي الطائفي، وما يعوله الشعب كثيرا على نوابه سواء كانوا منتخبين بإرادة شعبية حقيقية أم نواب «مراكز عامة» أم نواب «للخلف در» ممن اعتمدوا بشكل حاسم على توجيه أصوات العسكريين في ترجيح كفتهم، أو «نواب ضغطة زر» أو حتى ممن ساقهم برلمانيا القدر الانتخابي الممنوح بسخاء لسائر خلق الله وكائناته في «نتفة» من أرضه الواسعة!
فلم أقبض منه إلا كلمات خافتة ألقى بها على مسامعي ومازالت توشوش في ذاكرتي كنثار جمرٍ، ومازال حارقا ذلك النثار الخافت حتى هذه اللحظة في مجامر الذاكرة من دون أن يخمده عصف ريح، وهي «هم دخلوا بـ (أجنداتهم)» و «لابد من الوقوف أمامهم» و «الوحدة الوطنية والتمام الشمل هو حلم ومثال خيالي لا يمكن أن يصبح واقعا» وأخرى «انتبه أين تضع قدمك» وختامها جاءت على سبيل المداعبة الوردية الاصطناعية «لا خوف عليك فقد أصبحت الآن من رجال الأعمال»!
وذهب النائب بعد أن عزاني بخالي ونسي أن يعزيني في رحيل واختفاء ذاك المدرس ذي الابتسامة النقية والنكتة الأكثر صدقية وجدوى واقعية، وبرحيل وقع الخطى الأكثر مهابة واحتراما، فكم وددت لو أناديه هاتفا به أمام حشود المعزين في خالي «تعال يا أستاذ واحضر إلى مراسم عزاءك التي لم تنتهِ، تعال واستقبل معي حشود المعزين فهم ربما جاءوا إلي يعزوني في فقدك»، حمدا لله أنني لم أسلم طوعي المحتمل للواء عواطفي وانفعالاتي الكارثية وإلا لكنت الآن بعيدا عن القراء الأعزاء وربما في مكان مغلق بالقرب من الإشارات الضوئية بالقفول، أو عند ضريح دوار القفول السابق!
ولم يبق لي من عزاء وسلوى إلا تلك الذكريات الجميلة التي تنعمت بها في كوني طالبا لهذا المدرس المتميز الذي لم أسمع منه قط حسا تقسيميا يائسا وبائسا كهذا، وهو الذي استطاع أن يجمعنا معا كطلبة وزملاء دراسة من السنة والشيعة على مائدة ضحك واعتبار واتعاظ أخوي موحدة، فكان مقرر «التربية الإسلامية» لأول مرة حقلا دراسيا جاذبا وممتعا بالنسبة لي وللكثير غيري، وبالمصادفة في أجمل أيامنا الوطنية التي أصبحت وانقضت وربما لا تأتي (2001 - 2002)!
فما هي تلك «الأجندات» التي قضت على الأستاذ الفاضل أن يصبح كبش فداء لمكائد سياسية قذرة، قبل أن يكون نائبا متورطا على سطح خشبة العمل البرلماني الطافحة على بحيرة كالحة ومأهولة بالتشظي والتحاصص والشتات، لكأنما أفقها وعمقها هو العدم والمجهول بلا قرار، أو يكون سقفها الضباب والرماد المخضل بدمع الغياب؟!
أين هي تلك اصطلاحة «الأجندات» التي يدهن بها صدر وجبين وخطاب هذا المربي الفاضل سابقا والنائب حاليا وغيره بحجة أنها «فكس» سياسي ضروري للتحصن من جراثيم الآخر، والاستعداد للدخول في معارك اصطناعية عبثية لا ناقة له بها ولا جمل؟! هل هي بمثل هذه الخطورة حتى يكون لها الجميع بالمرصاد؟!
إن كان يعرفها مربينا الفاضل الذي روانا بصفاء القيم الإسلامية الحضارية النيرة فليعددها لنا عسى أن نتصدى لها معه؟! هل ستكون البيئة البرلمانية محيطا فاعلا ومسعفا لتطبيق تلك «الأجندات» وهي المعروفة بصلاحياتها وسلطاتها المتواضعة وموقعها المخطم دستوريا أساسا في الهرم السلطوي، ناهيك عن عوامل ضعف الخبرة والإلمام وقبلها ضعف الوعي أساسا لدى بعض المساكين و «الغلابة» أصلا من أصحاب «الأجندات» بأبعاد ومضامين ما يحمله من شارات وشعارات لقضايا تهم أولا وآخرا جميع أفراد الشعب؟!
وماذا عن الصفوف الدستورية العازلة من ضمانات واحتياطات وقائية وسائر أصناف الحماية والتحصين بحيث يستحيل خدشها في فجوة غير متوقعة من الزمن؟! أليست تلك «الأجندات» حكم عبثي مسبق على النوايا طالما لم يكن مسنودا بدليل مادي ملموس؟!
إن كان ما يقصد بـ «الأجندات» هو ما ورد في برنامج أصحاب «الأجندات» من نقاط ومحاور وطنية لا خلاف عليها لكونها تعني وتهم جميع أفراد الشعب وتسعى إلى الدفاع عن مصالحهم وتحسين أوضاعهم فتلك مصيبة كبرى؟! وإن كان مربينا الفاضل والنائب المحترم على علم بها فهي كارثة أشد وبالا؟!
مازالت تصدح سنواتنا الطلابية وسنوات التنشئة والتربية الأولى بآيات ومأثورات قدسية طالما تكررت ونقشت في أذهاننا آثارها المبهرة في التسامي الأخلاقي والإعجاز المبدئي، هي آيات قرآنية مثل «ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى» (المائدة: 8)، وقصة الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) مع درع اليهودي، وقول الرسول الأعظم (ص): «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة»، فهل مازال مربينا الفاضل يتذكرها بين زحمة «أجنداتنا» و «أجنداتهم»؟!
«الأجندات» تلك قادتني إلى استعادة بديهية لحقيقة مشاركة بعض التيارات الممالئة سلطويا في اللعبة البرلمانية ليس لهدف سوى التصدي والتربص بالمعارضة الوطنية الإصلاحية التي احتكرت تمثيلها برلمانيا «الوفاق»، بحسب القسمة الانتخابية الطائفية، فكانت «الوفاق» بذلك في عرف تيارات الموالاة والانصياعية السلطوية المشحونة بكهرباء صلبة وجافة الممثل المراد لـ «أصحاب الأجندات» و «جحيم الآخر» الذي يجب بحسب الأوامر والشهادات الملقنة والاستدعاء الحميمي والتأنيبي من أطراف سلطوية نافذة التصدي له ولعب دور حائط صد حكومي لعرقلته وزيادة إحراجه!
فيكون «إحباط الوفاق» بما تمثله من جماهير عريضة وهي التي تمثل كامل الشعب دستوريا منجزا برلمانيا في إطار تلك التقسيمة البغيضة التي أجد فيها المربي الفاضل والقدير سابقا طرفا متورطا فيها (بعلم أم من دونه) وإن لم أكن سمعته نطق خلالها بحرف أو أدلى بتصريح واحد، وذلك أفضل بكثير!
إلى متى سينتظر الشعب انتهاء تلك المعركة العبثية الوسخة المسماة بـ «لعبة برلمانية» ذات تقسيمة طائفية مفتعلة للإلهاء، بعد أن جاءت كانعكاس بشع ومروع لأزهى أحلام المناضلين أكانوا ذهبوا فداء لها، أو هم رحلوا، ورحيلهم ذاك غصة في الحلوق لم تنصرف أبدا، ومنهم من يعيش سنوات اغترابه النضالي عدا من ذاق ذهب السلطة بعد نارها أم ذاق ذهبها دون نارها فأصبح في زمن «الهداية الواقعية الجديدة» بعد «الجاهلية النضالية الكلاسيكية»؟!
كم ستكلف الشعب تلك المعركة المعلنة/ المخفية وذاك الاستقطاب والتشظي الطائفي المدعوم/ الممقوت؟! وكم ستستنزف من ثرواته المعلنة والمخفية؟! إلى متى سيصبر على هذا البؤس والعوز والفاقة المزداد سوءا؟! من الأولى بأن ينظر إلى قدميه يا أستاذ قبل الآخر؟!
هل أنا المواطن الذي يكدح ويكتب كغيره أو أقل بكثير من سائر أبناء الشعب، أم هو أنت المستأجر برلمانيا بلا ناقة سياسية ولا جمل اقتصادي ولا حبل قانوني في عبثية وإلهاء معركة «أجنداتنا» و «أجنداتهم»؟! من الأقرب إلى أن يكون رجل أعمال أنا أم أنت بحكم الانتماء الطبقي إلى «النواب»؟!
رد المداعبة
ولولا أخبار نجاح تحالف «الوفاق» و «المستقبل» في إسقاط مشروع «رشوة» تقاعد النواب والوزراء، وهو ما أثلج الصدر لقلنا إن نوابنا وحدتهم الرشوة «التقاعدية» وفرقتهم هموم وقضايا الشعب، فكانت نعم الرشوة الوطنية!
لكن تشاء الأقدار أن يكون لنواب «الوفاق» أو نواب «أجنداتهم» دور كبير بالتحالف مع زملائهم في كتلة «المستقبل» في لعب موقف وطني مشرف واتخاذ خطوة شجاعة أخلاقية مبدئية تحفظ ماء الوجه على الأقل مع برلمان لا يسمن ولكنه يغني من جوع!
وربما كان مقررا لهذا البرلمان أن يكون أسوأ من ذلك لولا تلك الخطوة التي نشيد بها ونحترمها من ممثلين حقيقيين للشعب نعتز ونفتخر بهم وبمسعاهم التحالفي ذلك، والذي نجح في تفجير بالونة اختبار سوداء قبل أن تدخل رئة المواطن المسكين، وهم لم يرشوا تلك الرشوة أبدا بماء الورد ويبخروها بالعود الثمين كما كان سيفعل «الأتقياء» و «الورعون» من حائط الصد الحكومي الواقي ليرموا بعدها الفتات على صفوة الناخبين!
فهل أهنئك على ذلك يا أستاذي الفاضل ونائب الشعب حاليا بحكم «ضرورة» اللعبة السياسية؟! هل أهنئك بانتصار أصحاب «أجنداتهم» المتحالفين مع عدد من زملائهم الوطنيين في هذا الشأن، أم أعزيك بهذا المصاب الأليم وأعزي «الوطن الواحد» وهو هذا الكائن الأحلامي والمثالي والهيامي الهلامي الذي تمثله؟! هل انتصرت بذلك «أجنداتهم» على رغم أن «المعركة» لم تنته بعد ومازلت وصحبك على الحدود الجبهوية من دون أن ندري متى العودة والردة؟!
وإن كانت هنالك من عودة فعد إلى الله بهم أو من دونهم، واتقِ الله يا مربينا الفاضل، وخذ هذه الكلمة لهذه المرة فقط من حبر تلميذك الذي طالما كنت له حكما ومصححا تربويا أيام المرحلة الثانوية، خذها ممن قد تراه اليوم علمانيا، أوتقدميا، أو يساريا أو «وطنيا» معتوها ومشردا يعوقك عن «معركتك الكبرى»!
خذ كلمة الحق الطاهرة هذه حتى وإن جاءتك بمعجزة على لسان كلب ضال أو ممسوس شيطانيا على قارعة الطريق!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1907 - الأحد 25 نوفمبر 2007م الموافق 15 ذي القعدة 1428هـ