بالعودة إلى أصول علم الاجتماع، فإن أي مؤسسة اجتماعية أو سياسية كجمعية الوفاق، تشكل بيئة وسطية حاضنة لنشاط المنتمين إليها، فهي - أي المؤسسة - تؤثر فيهم بشكل مباشر وغير مباشر، وتحدد لهم اتجاهاتهم واهتماماتهم بشئون المجتمع، إذ يتم ذلك التشكل من خلال ما تقوم به المؤسسة من تشريب للقيم والمفاهيم التي تنتهجها. بمعنى أن هناك نمطا من أنماط تحديد اتجاهات نشاط النخبة النسائية الوفاقية ضمن التركيبة التنظيمية الداخلية لـ «الوفاق»، وهي - أي «الوفاق» - باعتبارها منظمة سياسية مؤدلجة تتسم بآلية معينة ومفهوم محدد يمثل جزءا لا يتجزأ من الثقافة السائدة التي تتفاعل مع العناصر الأخرى في المجتمع في إطار انتمائها الديني والمذهبي الطائفي والفكري والاجتماعي والسياسي، ما يجعل من نشاط النخبة النسائية الوفاقية فعليا محصورا ومحددا في إطار مسار أهداف وتطلعات وأولويات جمعية الوفاق ومرجعيتها الدينية والمذهبية، بل ويتماهى معها بصورة أو أخرى، ذلك ما يستوجب على هذه النخبة أن تواجه ذاتها به وتصارحها بشفافية، بشأن مدى القدرة على تحقق الأهداف والتوصيات الطموحة المعلن عنها في ظلّ ما يعمل به ويعتمد من قبل قيادة «الوفاق» والمرجعية تجاه المرأة بوصفها شريكا وخصوصا غير المعلن عنه، ولاسيما أن نمط الجمعيات الدينية السياسية عموما يستحضر الدين والنص والتأويل في ممارسته لأنشطته وصولا إلى أهدافه، آخذا في الحسبان أن هذه العناصر بحسب المحللين تختلف مع بعض المفاهيم العصرية التي برزت في سياق منظومة الاتفاقيات الدولية ومنها (مقررات مؤتمر بيجين واتفاقية السيداو) المتعلقة بحقوق الإنسان والمرأة وفي إطارها الفكري وقناعاتها تجاه المرأة ودورها في المجتمع، ما يعرض النخبة إلى مواجهة تحديات نوعية كبيرة لتحقيق تلك الأهداف والتوصيات، وقد يظهرها في وضع ازدواجي بين لمعان الأقوال وبريقها وعدم اقترانها بالأفعال، وهذه مفارقة محرجة لا تتعرض لها الوفاقيات فقط إنما غالبية النخب النسائية في تيارات الإسلام السياسي على امتداد الوطن العربي. عن أية مفارقة نتحدث؟ طبعا عن مفارقة المعلن عنه مع ما تتمّ ممارسته على أرض الواقع.
إلى ذلك، لم يغبْ عن نظر المتابع ما فاضت به الصحافة المحلية خلال السنوات الأخيرة من تصريحات منشورة وموثقة وسجالات وردت على لسان قيادات نسائية ورجالية في التيار الإسلامي بتنوعه تؤكد أولوية التزامها بالمرجعيات الدينية وتتبعها لنهجها والعودة إلى الرموز العلمائية في كل القضايا والملفات ومن ضمنها طبعا «قضايا حقوق النساء»، بل لا يستطعن التحرك من دون العودة إلى العلماء والرموز، والتأكيد الدائم والمستمر على أن حقوقهن محفوظة ومصونة ضمن الشريعة، مما انعكس على قناعة بعضهن بعدم الحاجة إلى تقنين الأحوال الشخصية.
والحصيلة في هذا الصدد، أن فعل الخلفية السياسية والثقافية والفكرية والقيمية هو الذي يطغي على هذه الاتجاهات، وهو بحسب الظنّ ما تنشده قيادة «الوفاق» لكوادرها النسائية (... أما قانون الأحوال الشخصية فموقفنا منه يتفق مع موقف العلماء وهو الموقف الرافض للتقنين بلا ضمانات، إذ إنه ينطلق من رؤية دينية بحتة والتزام بأحكام الشريعة وليس من خلفية سياسية... الخ، رملة جواد «الوسط» 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2007). إن ذلك هو ما يعكس عمق تغلغل وصاية المرجعيات وفرض تعليماتها وفتاواها وتأثيرها القوي على نشاط هذه النخبة وبمستويات متفاوتة من حين إلى آخر، مما يجعلهن يعملن فعليا على إعادة إنتاج ثقافة الواقع تجاه دور المرأة في المجتمع وتبريره وتزينه وتحديد المجالات التي يجب أن تتحرك فيها المرأة، فكل أمر لابد وأن يكون وفق «الرؤية الإسلامية» ويتوجّه «باسم وإلى المرأة المسلمة»، وعليه فإن جوهر الخطاب الإسلامي النخبوي النسائي هو في واقع الأمر مفرغ من المضامين التي تعمل على تعزيز دور المرأة ومشاركتها في الشأن العام، بل وإنه يعمل في اتجاه معاكس ومغاير للأمنيات في هذا الجانب، ولا أدلّ على ذلك إلا ما تردد على مسامعنا أيام الانتخابات «لا يجوز التصويت إلا للملتزمة والمتحجبة، والأولوية تفرض على المرأة أن تكتفي بالتعليم الديني وتخريج المبلغات، وبالتالي لا داعي للسعي لتقلد منصب سياسي، وهي قارورة سريعة الانكسار، ومحظور عليها الاختلاط بالرجال، ولابد أن تتحلى بلباس الحشمة والرزانة... الخ»!
منزلقات وامتحان صعب
قبل أن تطوى صفحة وتفتح أخرى، نجد أن أمام النخبة النسائية الإسلامية التي تخوض نشاطها التجريبي في بيئة مليئة بالألغام والمنزلقات والمطبات امتحانا صعبا وتحدياتٍ لمجمل الأطروحات الجميلة التي تحدثت عنها بتسطيح وروح تفاؤلية، ولاسيما أن التعامل مع الأفكار - شئنا أم أبينا - مقرون ومتشابك مع الواقع، فهناك الثوابت والمطلقات التي تعمل في حال اصطدام مع المنظومات الفكرية الأخرى بشأن رؤيتها الاجتماعية والثقافية والسياسية وأدوار المرأة المتعددة في المجتمع التي بحسب اليقين لا تستطيع «الوفاق» فكرا وتنظيما وانتماء إيديولوجيا دينيا ومرجعيا عقائديا ومذهبيا التفاوض عليها، يأتي في مقدمتها قضية ارتباط المرأة بالشأن العام والحياة الاجتماعية الخاصة والعامة، إذ تتداخل الأنماط المتعددة من العلاقات الإنسانية المتشابكة التي فرضها عصر العولمة وفي سياقها شعارات تحرير المرأة وتمكينها والنهوض بأوضاعها، فالفكر الإسلامي عموما وكما يشير زكي ميلاد في كتابه «الفكر الإسلامي»، «يعطي أولوية لفقه المرأة وصيانتها وطهارتها وكلّ ما يجنبها الفتنة والشبهات والانحرافات، بل إنه يمثل القاعدة الأساسية التي تقوم عليها تلك الأولويات، فكرامة المرأة مرتبطة بالعفّة والطهارة بعيدا عن الحقوق، بينما ربطت المنظومات الفكرية المغايرة كرامة المرأة بحقوقها بعيدا عن الفقه والطهارة، وهناك إجماع في الفكر الإسلامي على أولوية وظائف ومسئوليات المرأة داخل الأسرة على خلفية حماية الأسرة والمحافظة على كيانها...»!
إذا، هذه الإشكالات تمثّل بحد ذاتها نموذجا من نماذج المعضلات التي تواجه خطاب النخبة النسائية الوفاقية التي غالبا ما تتجنب التطرق إليها أو تنتفض احتماء بالأفكار المطلقة والثوابت حالما يطرح موضوع كـ «قانون الأحوال الشخصية» دونما النظر بعمق إلى طبيعة المتغيرات التي حدثت في المجتمعات الإنسانية ومدى تأثيرها على مجتمعنا، ما يستدعي إعادة النظر للواقع وقراءته من نافذة المفاهيم الإنسانية الحداثية وليس من منظور إسلامي وطائفي فقط، وعلى قاعدة الحوار مع المختلف واحترامه وتعدد الثقافات والمرجعيات. فهل تقبل الوفاقيات خوض معركة التحديات والسجالات من أجل تحقيق أهداف وتوصيات مؤتمرهن الأول، وخصوصا أنه وكما سبق وتردد بأن ملف المرأة في «الوفاق» ليس أمرا ترفا؟
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1906 - السبت 24 نوفمبر 2007م الموافق 14 ذي القعدة 1428هـ