قديما كان اللبنانيون العروبيون يقولون إن ساحة لبنان هي مرآة عاكسة للتناقضات العربية! فيما كان يقول المتغربون منهم والمسحورون بمسحته الغربية إنه سويسرا الشرق! هذا فيما كان يكابر اللبنانيون القومويون من المفاخرين بأصله الفينيقي بأن لبنان لا يجوز تشبيهه بأي بلد آخر في العالم «لأن الله خلق لبنان ثم كسر القالب ورماه في البحر»!
لذلك كانت الجماعة الأولى تتجه أبصارها دوما إلى العواصم العربية النابضة بالحياة والحراك لعلها تترك بصماتها على الوضع اللبناني بما يقوي من عروبته أو مساحته العربية ويجعله تاليا رافعة إضافية لدمشق أو القاهرة أو بغداد دعما لها في معارك الاستقلال والوحدة والتقدم!
هذا فيما كانت الجماعة الثانية شاخصة أبصارها دوما نحو الغرب ودول المتروبول الفاتنة لعلها تشكل منارة إضافية في لوحة الحداثة التي تغزو العالم بشكل متسارع فتصل ثمارها لبنان وهي بأحسن أحوالها أو كحد أدنى لا تقل عن لندن أو باريس لذلك كانت تردد مقولتها الشهيرة «باريس مربط خيلنا»!
أما الجماعة الثالثة فقد كانت تقدس «الأنا» المبدعة وربما تعتبرها في قرارة نفسها النسخة الأصل للخلقة وسر التكوينّ فإنها فضلت أن تبقى منطوية على نفسها حتى نعتت من قبل فرقاء داخليين كثيرين بالفئة الانعزالية، وذهب البعض إلى اختراع مقولة «قوة لبنان في ضعفه»!
لم يكن الاختلاف في الرؤية أو التقييم للبلد «حربيا» لكنه لم يكن «سلميا» على الدوم أيضا لكل الفئات الحاملة لتلك الرؤى، ومع ذلك ظلت متعايشة في لوحة جميلة ومشرقة في الظاهر على الأقل! فثمة فئات كانت تتمتع بامتيازات على حساب أخرى بصورة استفزازية ومصطنعة، مما كان يحرك لدى البعض نوعا من الشعور بالمظلمة فيما كان يغذي لدى أصحاب الامتيازات الممنوحة لهم من الخارج نزعة الاستحواذ حتى ذهب البعض منهم بعيدا في تماديه إلى درجة بلورة مقولة في غاية الخطورة على التعايش بين تلك الفئات الثلاث الآنفة الذكر، مثل القول الشهير لأحد رموز الفئة الثالثة الذي كان يدرس طلابه في الجامعة الأميركية مثلا «إن المواطن اللبناني منقوصة لبنانيته ما لم يعتنق المارونية»ّ!
ومن حينها استيقظت الأكثرية الشعبية وبدأت تنظر إلى معادلة ما عرف فيما بعد «بالمارونية السياسية» نظرة مريبة ورافضة! فكانت الاضطرابات والاضرابات والاختلافات المتفاقمة إلى أن دخلت القضية الفلسطينية على الخط بقوة من خلال فعل الكيان العنصري الصهيوني ومحاولاته الحثيثة لسرقة كل ما هو إيجابي أو متميز أو غني أو جميل أو فتان في لبنان وتحريك كل ما هو بشع أو سلبي أو محرك للفتن فيه إلى أن وقعت الحرب الأهلية المعروقة والتي استمرت نحو 17عاما عجافا والتي أوقفها العرب والدول الكبرى في إطار ما سمي في حينها باتفاق الطائف الذي قيل عنه الكثير لكن أهم ما قيل عنه هو سقوط المارونية السياسية لصالح ما اصطلح على تسميته يومها «بالنسبة السياسية»!
وقتها الكل رضي بالطائف على الظاهر، وقبله توافقا بين الطوائف ولكن على مضض! لأنه لم يكن قادرا على الاستمرار بالحرب من جهة، ولأنه أيضا بدا له للحظة أن الغزو الإسرائيلي وما تبعه من تداعيات خطيرة كان يستهدف اجتياح التجربة اللبنانية التعايشية برمتها من جهة اخرى!
في محطة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كان المخطط هذه المرة أشمل من اجتياح التجربة التعايشية اللبنانية لوحدها، فقد تحول المخطط إلى محاولة نقل لبنان من حيث هو لبنان الذي نعرفه إلى لبنان آخر تماما، بكلمة واحدة إلغاء لبنان! لأن ظرف الاغتيال لرجل مثل الحريري جاء في ظروف غاية في التعقيد والتشابك والتداخل ما لا يدع مجالا للشك بأن المخطط أبعد من اغتيال رجل اتفقت معه أو اختلفت!
ما يسمى اليوم استحقاق رئاسي في الواقع ليس مجرد رئيس لبنان! فلا يظن أحد بأن عافية لبنان ستعود بهذا الانتخاب أو بذاك ولا بهذه الحكومة أو بتلك، وإذا ما كان مطلوبا أن نحبس أنفاسنا فإن علينا أن نحبسها على لبنان نفسه الذي هو الآن في المزاد! يكفي أن تنظروا إلى كثرة المتدخلين وتنوعهم وتناقضاتهم وهمومهم واهتماماتهم، مقابل عجز اللبناني نفسه عن التدخل الفاعل، لتدركوا أن خيار لبنان الآن هو بين أن يكون ندا لتل أبيب أو نظيرا للقدس المحتلة ولا خيار ثالث أمامه! كان الله بعونك يا لبنان وحماك الله بعينه التي لا تنام ونصرك بحسن نظره!
حتى الأمس القريب كان ما يسمى «بالمجتمع الدولي» الظالم والمتعصب قد أقام الدنيا ولم يقعدها على التدخل السوري في لبنان، واليوم وبعد أن انسحبت منه سورية فإنه ليس فقط قد حول لبنان إلى ساحة اختبار نموذجية للتدخل، بل إنه احتار في انتهاج الطرق الملتوية لإعادة إدخال سورية بالذات إلى لبنان، بل إنه يكاد يتوسل إليها بالتدخل! ولكن لأي غرض؟ لغرض فرض رئيس ومعادلة ترضي الغرب وبطانته ولغرض حماية ما تبقى من هيبة «إسرائيل» وحمايتها من خطر الافول!
إنها معادلة الكيل بمكيالين هي هي دوما في كل مكان. فالبرادعي رجل محترف ومهني وموضوعي ومرضي عنه مادام يقدم تقارير تدين العراق أو إيران أو يبقي الباب مفتوحا امام التأويلات تجاه ملفهما، أما أذا تفوه بغير ذلك أو كتب ما يفسد على تل أبيب وواشنطن خطتهما فإنه سرعان ما يتحول إلى «شيطان» ومتواطئ مع محور الشر ويجب عزله ومعاقبته!
رحم الله جوزيف سماحة ذلك الكاتب اللبناني العروبي الموضوعي والمحترف الذي نبه مبكرا إلى ما يحاك للبنان ومنذ اليوم الأول لاغتيال الحريري، عندما قال إنهم يريدون نقله من ضفة إلى ضفة أخرى!
يوم فرضوا الانسحاب العسكري السوري من لبنان على اللبنانيين والسوريين بالطريقة التي أرادوا من خلال «إذلال» الجندي العربي وليس إنقاذ لبنان من الوصاية كما ادعوا ولايزالون، قلنا يومها إنها مؤامرة لسحب العروبة من لبنان، ووضعه تحت الوصاية الاميركية المباشرة في مقدمة لإعلان الحرب المفتوحة على حزب الله ورأس المقاومة الإسلامية التي رفعت رأس كل عربي ومسلم، ووقتها لم يتردد أحد قادة ما يسمى بثورة الأرز من الإعلام صراحة أنه يطالب بالانتداب! وها هو خطر الانتداب اليوم يطل برأسه من وراء الستار، إذا لم يكن قد صار على الأبواب! وبعبع الاستحقاق الرئاسي الذي يضخمون اليوم لن يمر على رافعي لواء النصر في جبال الأرز العالية على المتعالي، ولا على أولئك المنغرسة أقدامهم في أعماق أرض التضحية والفداء وأصحاب الجباه المرفوعة إلى السماء!
إذ إن عون الله... لهم... ونصر الله... منهم واللي يتكل على الله، ربنا عنو ما يتخلى... كما يقول أحباؤنا وأهلنا اللبنانيون من جبل عامل من أبناء عبدالحسين شرف الدين وأدهم خنجر وصادق حمزة والقافلة تترى...!
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1906 - السبت 24 نوفمبر 2007م الموافق 14 ذي القعدة 1428هـ