في أجواء الحديث عن مؤتمر الخريف القادم، يبدو الموقف السياسي الإسرائيلي هو إغراق الفلسطينيين بشروط اليهود الأمنيّة، لتمييع المفاوضات، والاستمرار في بناء المستوطنات التي طالبتهم السلطة الفلسطينيّة المنفتحة على المؤتمر بإيقافها، في وقتٍ يبعث الكنيست الإسرائيلي برسالة واضحة إلى المجتمع الدولي مفادها أنّ من المستحيل التخلّي عن القدس الشرقية المحتلّة في ظلّ أيّ تسوية محتملة مع الفلسطينيّين؛ كلّ ذلك يؤكّد أنّ هدف المؤتمر ليس إلا إيجاد حال من التطبيع بين العرب والكيان الصهيوني، وتقديم «إسرائيل» في صورة دولة سلام باحثة عن الحلّ الكبير للصراع العربي - الإسرائيلي، على حساب قضيّة فلسطين ذات الأهمية المركزية في هذا الصراع.
ويصرّ رئيس وزراء العدوّ على تقديم قيادة السلطة الفلسطينيّة اعترافا مسبقا بـ «إسرائيل» بوصفها دولة للشعب اليهودي، كشرطٍ للتوصّل إلى وثيقة المبادئ التي يعكف الجانبان حاليا على صوغها قبل انعقاد المؤتمر، مستجيبا بذلك - كما ينقل الإعلام - لطلب وزير دفاعه إيهود باراك، ومشيرا إلى أن ذلك يعني عمليّا تنازل الفلسطينيّين عن المطالبة بعودة اللاجئين، على اعتبار أنّ عودتهم تمثّل تغيير التوازن الديمغرافي لصالح الفلسطينيّين، بحيث يفقد اليهود غالبيتهم العدديّة. هذا، إلى جانب المعارضة اليهوديّة في الوسط السياسي والشعبي للمؤتمر؛ لأنّه - حسب زعمها - يؤدّي إلى نتائج خطيرة على المصالح الإسرائيليّة، لأنّ الأكثريّة الإسرائيلية لن توافق على أيّ حلّ يمنح الفلسطينيّين حقوقهم الشرعية التي يطالب بها العرب بعد سقوط المطالبة بفلسطين الجغرافيّة.
كلّ ذلك يجعل الحديث عن كون المؤتمر القادم فرصة للنجاح في إيجاد الحلّ الكبير الذي يتحدّث فيه العرب عن السلام، أمرا يقترب من السذاجة؛ بل إنّ الإحصاءات تتحدّث عن الفشل الكبير في هذا المجال.
هل يتحرّر العرب من القضية الفلسطينية؟
ويتساءل الشعب العربيّ والفلسطينيّ خصوصا عن جدوى اجتماع وزراء الخارجيّة العرب في تحقيق اتّفاق حاسم للوصول إلى نتيجة إيجابيّة لمصلحة الحلّ للمشكلة في هذا الصراع؛ لأنّهم لا يملكون الأوراق اللازمة في هذه اللعبة الدوليّة، ولاسيّما أنّ الولايات المتّحدة الأميركية تتحدّث، بلسان وزيرة خارجيّتها في زياراتها للأراضي المحتلّة، بطريقة استهلاكيّة لا واقعيّة، وخصوصا مع إعلان وزيرة خارجيّة العدوّ معارضة أيّ حلّ لا يقوم على أساس حماية الأمن الإسرائيلي ممّا يسمّونه الإرهاب الفلسطيني المتمثّل بالانتفاضة، الأمر الذي قد يقود إلى كثير من التعقيدات في الداخل الفلسطيني، والتي قد تخلق الكثير من الفتن الداخليّة بين الفلسطينيّين إذا دخلت السلطة في مشروع مواجهة مع رجال الانتفاضة.
إنّ المشكلة هي أنّ اليهود يتحرّكون من خلال الغرب كلّه لتعقيد أيّ حلّ للقضيّة الفلسطينيّة بشكل عادل، معتمدين على أنّ العرب لن يحرّكوا ساكنا في الوقوف مع هذه القضيّة التاريخيّة المقدّسة؛ لأنّهم تعبوا منها، وأصبحت المسألة عندهم هي: كيف يتحرّرون من فلسطين كلّها بأيّة وسيلة. وهذا هو ما نلاحظ ملامحه في خضوعهم للإرادة الأميركية في منع المساعدات عن الفلسطينيّين.
إدانة المذبحة الوحشية بين الفصائل الفلسطينية
وما دمنا في فلسطين، فلابدّ لنا من استنكار المذبحة الوحشيّة التي حدثت إثر تظاهرة كبرى في غزّة في ذكرى عرفات، من خلال الاستعراضات السياسية التي تتمظهر في عرض القوّة من حركة أمام أخرى. ونحن لا نريد توزيع الاتهامات عن المسئول عن ذلك؛ ولكنّنا نؤكّد أنّ هذه العراضة الحركيّة التي يمارسها الفلسطينيّون هنا وهناك، والتي تتبعها ممارسات وأخطاء كبرى من مسئولين وغير مسئولين، تؤدّي بالقضيّة الفلسطينيّة إلى حالة تدميريّة للقضيّة كلّها، في الوقت الذي يهدّد وزير دفاع العدوّ قطاع غزّة بالقصف والحصار المتدرّج الذي يخنق الشعب كلّه، ويُمارس الاغتيال والاعتقال والاجتياح في الضفّة الغربيّة.
إنّنا نهيب بالمسئولين الفلسطينيّين إلى أيّ حركة انتموا أن يرحموا الناس، فلا يوجّهوا رصاصهم العشوائيّ الغبيّ إلى صدور مواطنيهم، ولا سيّما من المدنيّين من النساء والأطفال، وإلى أن يتحمّلوا مسئوليّة القضيّة المقدّسة التي يخطّط العدوّ - ومن ورائه العالم المستكبر - لتصفية كلّ أوضاعها التي تنفتح على التحرير والاستقلال.
إنّ فلسطين أمانة الله في أعناق كلّ شعبها، وفي أعناق العرب والمسلمين كلّهم، وعليهم أن يحفظوا هذه الأمانة.
ومن جانب آخر، فإنّ بعض المسئولين العرب يحذّر إيران بأنّ عليها أن لا تتدخّل في العراق، وأنّ على الإيرانيين أن يفكّروا جيّدا قبل الولوج في أمر يضعهم في خضمّ مواجهة مع العالم العربيّ كلّه، وينبّهونها إلى أنّها تضحّي بمستقبلها بسبب القضيّة النووية.
إنّنا في الوقت الذي نرفض أيّ تدخّل من أيّة دولة في العراق بالدرجة التي تؤدّي إلى إرباك الواقع الأمني والسياسي هناك، نتساءل: لماذا لم يتحدّث هذا المسئول العربي عن التدخّل الأميركي والبريطاني في العراق، في احتلالهما لهذا البلد وتحويله إلى حالة من الفوضى التي دمّرت الشعب العراقي، وجعلت أرضه ساحة للإرهاب الذي يُتحدّث عن تغذيته - مادّيا - من بعض الدول العربيّة؟!
وإنّنا ندعو إلى أن تتعاون إيران والدول العربية، ولاسيّما دول الخليج، لإيجاد صداقة سياسية وأمنية واقتصاديّة، وخصوصا أنّ إيران أكبر دولة خليجية، وأنّ علاقاتها الاقتصاديّة مع بعض دول الخليج تُعد بمليارات الدولارات.
أمّا بالنسبة إلى مسألة الملفّ النووي الإيراني، فلابدّ لجميع الأفرقاء من التحاور بشأنه، ولا سيّما مع تأكيد إيران ووكالة الطاقة الذرّية أنّه ملفّ سلمي، ولا ندري لماذا لم تتحدّث دول المنطقة عن الخطر الإسرائيلي النووي الذي يمثّل الخطر على المنطقة كلّها؟!
وعلى صعيدٍ آخر، أعلنت الولايات المتّحدة الأميركية أنّها ستساعد لبنان بطائرات تدريب قديمة. والسؤال: لماذا لم تقدّم لهذا البلد الذي يواجه أخطار العدوان الإسرائيلي منذ عشرات السنين، طائراتٍ جديدة، أو أجهزة دفاعيّة متقدّمة، يملك معها الدفاع عن أرضه وشعبه، في الوقت الذي تقدّم لكيان العدوّ أحدث الطائرات التي لم تستخدمها أميركا لحدّ الآن... إنّ السبب الوحيد لذلك هو أنّ أميركا ملتزمة بالأمن الإسرائيلي على حساب كلّ المنطقة، وتريد لـ «إسرائيل» أن تكون أقوى دولة في المنطقة حتّى تستطيع الدفاع عن الاستراتيجية الأميركية في مواجهة الواقع العربيّ والإسلاميّ كلّه.
أميركا: سياسة
خلط الأوراق
ولاتزال أميركا تتحرّك في العالم من أجل بسط نفوذها السياسي والأمني بالمستوى الذي تمتدّ فيه الفوضى التي ترتكز عليها خطّتها لتخلط الأوراق ولتصنع التعقيدات، ولتربك الأوضاع، كما نلاحظ ذلك في أكثر من منطقة تعاني فقدان التوازن في الحرّيات العامّة، في حركة حلفاء أميركا الذين توظّفهم لإنتاج المزيد من المآسي لشعوبهم، من خلال قوانين الطوارئ المفروضة على المعارضة المتّهمة بالإرهاب؛ وهذا ما نلاحظه في باكستان وأفغانستان إلى جانب الأوضاع القلقة في لبنان، من خلال الوصاية السياسية المتحرّكة في أكثر من موقع؛ حتّى أنّ أميركا فرضت شروطا للرئيس المنتخب، أهمّها بأن يلتزم ويتعهّد علنا بإنجاز القرار 1559 الذي يتضمّن نزع سلاح المقاومة. هذا، إلى جانب الضغط على المعارضة في الخطوط السياسية المستقبليّة في الحالات التي قد يكون لبنان بحاجة إليها في قضايا الأمن والاقتصاد والإدارة.
هل ينتظر لبنان رئيس دولة أم رئيس ساحة؟
إنّ المرحلة التي يمرّ بها البلد هي من أكثر المراحل خطورة وحساسيّة وتعقيدا؛ لأنّ الواقع يتحرّك بين فراغٍ دستوريّ لا يعرف أحد نتائجه السلبيّة، ومشكلة النصاب المعقّد... واللبنانيّون لايزالون يلعبون بمصير البلد، تحت تأثير اللاعب الأميركي الأكبر، إلى جانب الحركة السياسية الفرنسيّة التي تبحث عن موقع لها في الحلّ. أمّا المواطنون، فإنّهم حائرون في مصيرهم، ولاسيّما أنّهم يسمعون كلاما يوحي بالخوف والترهيب، ولا ترغيب في الحياة والواقع.
ويبقى السؤال الدائر بينهم: هل هناك انتظار لرجل يلعب دور رئيس الساحة، لا رئيس الدولة التي قد تبقى مجرّد مشروعٍ مؤجّل إلى مستقبل لا يعرف أحد مداه؛ لأنّ لبنان الساحة يبقى موقعا يلعب فيه اللاعبون بالوطن الذي تتقاذفه الأرجل من أجل تحقيق هدفٍ لهذا أو ذاك على طريقة كرة القدم.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1904 - الخميس 22 نوفمبر 2007م الموافق 12 ذي القعدة 1428هـ