أنهت قوات الأمن الهندية عمليات تمشيط المناطق التجارية والسياحية والتربوية التي استولى عليها المسلحون في الأيام الثلاثة الماضية وأسفرت عن سقوط 195 ضحية.
إنهاء العمليات عسكريا لا يعني انتهاء تفاعلاتها السياسية الدولية والإقليمية. فما حصل شكّل ذريعة لفتح الملف الأمني على دائرة واسعة تبدأ في أفغانستان وتنتهي في الهند مرورا بباكستان. فالحلقات الثلاث مترابطة جغرافيا نظرا لتداخل الأزمات وعبورها حدود الدول الثلاث من خلال القبائل والأقليات. فالتضاريس السكانية التي تتوزع المناطق الجبلية والساحلية ساهمت في توليد حروب وزعزعة الاستقرار ومنعت الحكومات المحلية من توسيع قاعدة النمو الاجتماعي بسبب اضطرارها إلى اعتماد موازنات مرتفعة الكلفة لبناء ترسانات من الأسلحة الدفاعية والهجومية.
خطوط التوتر الدائم بين الحلقات الثلاث تأسست تقليديا لعوامل جغرافية - سكانية بدأت تأخذ أبعادها الإقليمية في نهاية أربعينات القرن الماضي على إثر انسحاب بريطانيا من شبه جزيرة الهند. فالانسحاب أسفر عن فراغات أمنية شجعت النخبة السياسية المسلمة على المطالبة بالانفصال (الاستقلال) وتأسيس دولة على ضفاف الهند وحدودها. وشكلت هذه الخطوة ذريعة للتقاتل الأهلي الذي عصف بالسكان وأدى إلى إطلاق حملات إبادة أو طرد ما دفع بالملايين إلى النزوح أو الانتقال من مكان إلى آخر.
حتى الآن لا تزال بقايا الأزمة قائمة على خلفية الانقسام والتفكك الذي هز الهند بعد استقلالها وأدى إلى انشطارها إلى ثلاثة أجزاء سياسية. والانشطار الأهلي الذي وزع شبه القارة على تنويعات دينية وأقوامية لم ينجح في توفير الاستقرار الإقليمي لكون كل جزء يتضمن أقليات تنتمي دينيا أو قوميا إلى الجزء الآخر، كما هو حال كشمير المنقسمة بين الهند وباكستان وغيرها من ولايات تتكاثر فيها أقليات مسلمة أو من طائفة السيخ.
الخلفية التاريخية للصراع الهندي - الباكستاني مهمة للانتباه إلى خطورة الاتهامات التي أطلقتها نيودلهي ضد إسلام آباد بشأن دورها في التحريض على تلك الهجمات التي تعرضت لها مدينة مومبي. فالاتهامات لا يمكن النظر إليها من زاوية أمنية معزولة عن الزوايا الأخرى. فالجغرافية - السكانية وتداخل الأزمات من كشمير إلى مومبي تعطيان صورة معقدة عن تضاريس العلاقات المعجونة بالأحقاد والكراهية الدينية والأقوامية.
الجانب الأمني من الصورة يعطل الكثير من إمكانات رؤية المشهد من مختلف جوانبه التاريخية وخرائطه السياسية الممتدة على الجوار الجغرافي وتحديدا تلك المرتفعات الجبلية في الشمال وتداخل حدودها على قمم هملايا التي تربط الصين شرقا بأفغانستان غربا. قراءة الجانب الأمني مهمة إذا تم إدراجها في الجغرافيا السياسية والتنافس الدولي القائم منذ تسعينات القرن الماضي على الجمهوريات الآسيوية (المسلمة) التي خرجت من تحت مظلة الاتحاد السوفياتي. فهذه المنطقة متداخلة في تكويناتها الأهلية وامتداداتها القبلية وهي في مجموعها تشكل نقاط توتر يمكن أن تقوض الهياكل السياسية المرسومة الآن في الخريطة الجغرافية. كل دولة تعاني من مشكلة أقليات وكل أكثرية (قبلية أو دينية) تمتلك مناطق نفوذ في الدولة المجاورة والعكس.
هذا الانتشار العنقودي للقبائل (الأقوام) الذي يتحكم بالمناطق الجبلية يشكل نقاط عبور للدول الكبرى أو الإقليمية نظرا لأهمية المواقع الاستراتيجية وتأثيرها السياسي على خطوط النقل والتجارة والإمدادات من الشمال إلى الجنوب أو من الشرق إلى الغرب (طريق الحرير). وزيارة الرئيس الروسي التي سيقوم بها إلى العاصمة الهندية ليست خارج التجاذب الدولي. كذلك زيارة الرئيس الأميركي التي قام بها إلى نيودلهي وتوقيعه اتفاقات تجارية مهمة تتصل بالجانب التقني للمشروع النووي الهندي لا يمكن عزلها عن خطوط التوتر في دائرتي آسيا الوسطى وجنوب غرب آسيا.
حلقات مترابطة
الحلقات الهندية الباكستانية الأفغانية مترابطة جيوبوليتكيا وهي متصلة سكانيا بالمجموعات القبلية/ الأقوامية في آسيا الوسطى. حتى الصين معنية مصلحيا بالمتغيرات التي تقع على حدودها الغربية والجنوبية بسبب الخلافات الحدودية مع الهند وتحالفها التقليدي مع باكستان. فهذا التعقيد في الأزمة يلقي الكثير من الأضواء على خلفية الهجمات التي وقعت في مومبي والجهات التي تستفيد من نتائجها السياسية. «إسرائيل» مثلا طورت علاقاتها الدبلوماسية في العقدين الأخيرين مع الهند ودعمت خطواتها السياسية في مواجهة باكستان ومشروعها النووي - الصاروخي. واشنطن أيضا حسنت الكثير من علاقاتها التجارية والتقنية مع نيودلهي على حساب إسلام آباد ما أثار قلق باكستان ورفع من حرارة خوفها على مشروعها النووي. موسكو بدورها أخذت بتجديد علاقاتها التقليدية مع الهند بعد أن تراجعت على إثر انهيار الاتحاد السوفياتي.
باكستان تعتبر الآن الحلقة الأضعف في السلسلة الجغرافية - الإقليمية. فهي خسرت منطقة نفوذها في أفغانستان بعد الاحتلال الأميركي في نهاية 2001، وهي أخذت تفقد حماية المظلة الأميركية بعد توتر علاقاتها مع واشنطن على خلفية اتهامها بأنها تقف وراء التخبط الأمني على الحدود مع أفغانستان (مقاطعة وزيرستان)، كذلك بدأت ارتباطاتها المميزة مع بكين تتراجع قياسا بالسابق بسبب التحسن الذي طرأ على العلاقات الهندية - الصينية في الفترة الأخيرة.
لكل هذه الأسباب الجيوبوليتكية تجد باكستان نفسها معزولة نسبيا وتتعرض دائما للضغوط الأميركية بشأن برنامج التسلح النووي الصاروخي ودورها الخاص في التأثير على استقرار أفغانستان الأمني بسبب انتشار ملاجئ «طالبان» في وسط قبيلة البشتون الموزعة سكانيا على الحدود. والمخاوف الباكستانية التي ارتفعت درجاتها في السنة الأخيرة مشروعة لأنها مترابطة إقليميا من جهة ومربوطة بتوازناتها الأهلية الداخلية (أربع ولايات) من جهة أخرى. فهذه الدولة التي تأسست خلال فترة استقلال الهند عن بريطانيا تعاني من خلل بنيوي ناتج عن توزع مراكز القوى السياسية في ولاياتها (أقاليم) الأربع. وهذا ما يضعف الدولة ويعطي قوة لدور الجيش في ضمان الوحدة «القومية» ومنع العلاقات الأهلية الممتدة جواريا (كشمير شرقا والبشتون غربا) من الانهيار في حال تقوض الاستقرار الإقليمي.
اتهام بعض المصادر الهندية لباكستان بلعب دور ما في هجمات مومبي مسألة خطيرة تتجاوز الجانب الأمني وتلقي الكثير من الأسئلة عن الأطراف التي تمتلك مصلحة في جرجرة المنطقة إلى توترات حدودية تحتمل التصعيد العسكري وقد تتطور نحو مواجهات تزعزع استقرار الحلقات الثلاث في جنوب غرب آسيا.
عناصر التفجير قوية وباتت جاهزة بعد التطورات العنيفة التي شهدتها الساحة الباكستانية بعد اغتيال بينظير بوتو المعطوفة على اتهامات أميركية تشير إلى دور إسلام آباد في تغطية ودعم هجمات «طالبان» في أفغانستان. فهناك كما يبدو محاولات أميركية حثيثة على عزل باكستان (محاصرة برنامجها النووي) وضبط نفوذها في دائرة جغرافية لا تتجاوز حدودها انطلاقا من رؤية تشير إلى وجود بدائل يمكن الاعتماد عليها في سياق التنافس الدولي على المنطقة. فالبدائل (نيودلهي وربما كابول) تضعف موقع إسلام آباد التي ستكون محاصرة من القوة الهندية في الشرق والقوات الأميركية في الغرب. وهذا الاحتمال يزيد من مخاوف باكستان وتحديدا حين توجه إلى قيادتها العسكرية والمخابراتية اتهامات تشير إلى احتمال ضلوع أجهزتها بالهجمات على مومبي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2277 - السبت 29 نوفمبر 2008م الموافق 30 ذي القعدة 1429هـ