قد يقول مواطن في أية بقعة من بقاع البلد بعد أن عجنته أنامل القهر والبؤس: «ألم يكن من الأفضل لهم لو أنهم منحوا تلك المقادير المادية الهائلة التي تصرف على نواب الشعب من دون مقابل نوعي وحقيقي وبآثار غير مضمونة النتائج للشعب مباشرة، بدلا من كل هذا الصداع النصفي، وذاك النبش الطائفي المتشنج الذي لم يقبض مكيال (بعرة) أو شعرة، ولم يجنِ منه الشعب غير المزيد من القهر والانسحاق؟ فلو أنهم منحوا الشعب كل ذلك المال والقبض المهدور لتحسنت الأوضاع، وتعزز الولاء للنظام، واصفرّت صحائف السياسيين المعارضين، وبهتت خطاباتهم النارية».
وربما يقول مواطن آخر أكثر رفاهية واقتدارا بقليل: «لماذا يمنحون النواب عروضا تقاعدية أفضلَ من تلك العروض الترويجية التي يمنحها مطعم من المطاعم لزبائنه هذه الأيام ويعلنها في الصحافة؟ فهل هم صدد التصفية الختامية للتجربة البرلمانية أو ما قبلها؟ وهل العمل البرلماني بمثل هذا الرخص لا الغلاء؟».
وفي الجهة الأخرى قد يتفلسف ويرغى أحد المريدين والمدافعين عن النواب والحكومة وتقاعدهم من فوق منابر الدين: «أعطِ الأجير أجره قبل أن يجف عرقه»، أو ربما يستشهد بحوادث الأنفال وتوزيعها على المجاهدين أيام الرسول الأعظم (ص)!
ونحن نرى أن الرشوة «التقاعدية» التي قد تمنح للنواب تلك مؤهلة لأن تكون وصفة ماهرة من «شيف» أو «شيفة» لإفشال التجربة الإصلاحية ككل، وربما لتبخيس التجربة والعمل البرلماني ليكونا لدى المنظور الشعبي أشبه بالارتزاق والارتشاء الجماعي، فأحكام الجماهير السيكولوجية المحبطة لن تخرج عن نطاق «1» أو «صفر» أمام فضيحة بجلاجل لا يصلح أن ترتدي خلخالا!
أما القول إن ذلك العرض التقاعدي الـ «Bonanza» هو إنما وضع لاستقطاب أو جذب الكفاءات والخبرات والثروات والموارد القومية ورؤوس الأموال البشرية فإنما هو استغباء وتجهيل جاهل للمواطنين، فكأنما نحن نعيش في بيئة مثالية من تراتب الأجور والوظائف قد يكون فيها الرجل المناسب في المكان المناسب، أو أنه سيتم استيراد نواب من الخارج لن يقبلوا إلا بهذه الأجور والعروض التنافسية!
وعلى المقام والإيقاع الطبلي ذاتيهما يقع قول «الصارم البتار» الذي لم يقطع بصلة فاسدة قط بشأن تلك العروض التقاعدية فيعتبرها آتية لتحصين النواب من شراء الذمة، وهو قول لا يحترم نفسه ولا يحترم ذكاء القراء، فمثل تلك العروض المغرية قد تنفع لسداد ودفع المخالفات لاحقا، وربما بعد كبوة حصان الحصانة البرلمانية!
لماذا لا تكون الرواية المنطقية المعكوسة أيضا احتمالا واردا لدى المدافعين عن تلك العروض التقاعدية المطروحة في بيئة يلفها العوز والحرمان وتدني الرواتب وهزل الزيادة المذلة، وهو ما سيفتح الباب على مصراعيه لحشود من المتسولين والنصابين والمرتزقة والمغامرين ليزاحموا انتخابيا من دخلوا بنية طيبة؟
لماذا لا تكون هنالك رواية أخرى ترى أن عروض المدافع التقاعدية تلك ستحرق النواب المنتخبين شعبيا وتدك صروحهم في قلوب المواطنين وعقولهم وستقضي على ما تبقى من صدقية لعملية انتخابية عسى أن يصل بعض الشرفاء والأصلاء والمخلصين من أبناء هذا البلد إلى قناعة فحواها أن «من يترشح نفسه أو ينتخب لا يحترم نفسه» أو مثلا «من يرشح نفسه أو ينتخب بحاجة إلى رفسة»؟
وإن كنت أجزم أن هنالك «نواب مراكز عامة»، أو «نوابا للخلف در» ممن اعتمد على توجيه أصوات العسكريين، وهناك «نواب ضغطة زر» سيعتبرونها ثمنا مجزيا للإنسانية والشرف والنبالة والكرامة، أو ربما تكون عرس شهادة في جنة عدن المفقودة!
فهل هي قسمة عادلة وحكم رشيد بين صاحب عمل وأجر وأجير ومستهلك، أو بين سلطة تشريعية تشتغل عند السلطة التنفيذية، وهو ما يكسر حياديتها أصلا بدلا من أن تكون بمثابة العضيد المكافئ أو الأخ الأكبر الذي يتولى التشريع والرقابة كما يحصل في الديمقراطيات المحترمة، فهنا تطفر أزمة تواضع السلطات والصلاحيات البرلمانية عندنا التي ستجعل العروض والرشاوى «التقاعدية» أمرا أكثر من سائغ وشهي؟
والله إنها ليست بقسمة عادلة خصوصا، وإن كان البعض من ممثلي الشعب من صنف (نواب المناسبات) ممن يضع ما يرسله من «مسجات» أو تهانٍ إلى أهالي الدائرة في مختلف المناسبات الدينية أو الوطنية ضمن صميم إنجازه البرلماني الذي يفاخر به، أو قيام هذا البعض من الشيء بالتمنن على أعضاء دائرته فيما حققه من عظيم الإنجاز بتنظيمه سداسيات كرة قدم إذ يرتدي فيها اللاعبون الفتية فانيلات عليها صورته واسمه، وكأنما هم - أعني هؤلاء اللاعبين المغلوبين على أمورهم - حملانه المدللة في مزرعته الانتخابية!
وربما لو أضاف إلى تلك الإنجازات ابتسامته الآسرة من وجهه «المسفر» والتي تشرق فيها الشمس من مغربها عسى أن يتكسب بها صدقة انتخابية أخرى!
أليس من المخزي والمخجل أن تعد تلك الواجبات الاجتماعية ومكارم الأخلاق الإسلامية «السنع» سلعة يتمنن فيها النائب على ناخبيه وأهالي دائرته لكونها منجزا برلمانيا؟
ألا يستحي على وجهه من يكلف نفسه عناء تنظيم بعض السفاسف الترفيهية التي لا ترقى إلى مستوى الخدمة فيعتبرها منجزا قابلا لأن يصك بالمنة الانتخابية ويصرف في «الدواعيس» البائسة؟
فأية تهانٍ مناسباتية وأية سداسيات وأية تسليفات بـ «العشرة» و «العشرين» دينارا، وأية «خياش عيش» و «ادباب دهن» وربما «نفيعة» وطنية جماعية تلك التي تتساوى مع ما سيقبضه النائب من أرباح أو رشاوى «تقاعدية» طائلة؟ هل هي جميعا من الجنة التي لا يملك مفاتيحها إلا النائب؟
إن مثل هذه الرشاوى «التقاعدية» التي سيقبض ثمنها النواب إلا من رحم ربي تنفع لإشعال فتيل أزمة أخلاق وقيم متهاوية إلى جانب تدشين معركة ارتزاقية عالية قد تشبه سيناريو أحد الأفلام الأجنبية الذي يحكي قصة مقاتلين ومغامرين ومراهنين من مختلف أنحاء العالم يتجهون للمشاركة في مسابقات قتال حتى الموت بهدف الظفر بـ «التنين الذهبي»، وإن كنت أرى في سيناريو الفيلم من الاحترام والصدقية والوضوح ما يفوق سيناريوهات انتخابية ورشاوى «تقاعدية» ستمنح للنواب!
وإن كان هنالك تحركٌ مباركٌ من بعض الإخوة الأفاضل في «الوفاق» لتدشين عريضة احتجاجية على الرشاوى «التقاعدية» تلك التي ستمنح لنواب «الوفاق» فهذا أمر يثلج القلب ولكنه لا يكفي؛ لكون مثل تلك الرشاوى قد تقبض بذريعة حكم الغالبية الموالية؛ لذلك فمن المناسب ومن حق الناخب على النائب أن يطالبه بكشف أرصدته المالية باستمرار؛ فالعقد بينهما ليس مجرد عقد تمثيل ومحاماة فقط وإنما أكبر من ذلك بكثير!
شافى الله المناضل الوطني عبدالرحمن النعيمي (بوأمل) الذي كشف أرصدته المالية بمبادرة ذاتية ذات ليلة أمام جماهير الدائرة، وأبدى كامل استعداده لمواصلة ذلك إذا ما وفقه الله للوصول إلى البرلمان باعتباره من حق الناخب والمواطن عليه، فالرجل ابن الرجال صاحب مشروع وطني، وليس مشروعا فرديا يصبح من خلاله ضمن أفراد وأسر «طبقة النواب» كحال بعض «التقاة» و «الورعين» و «المتخرعين» الفاشلين!
أما بخصوص ما سطرته أنامل الزميل والأخ قاسم حسين حينما كتب «الكتل الأخرى، يمكن أن يبلعها أو يهضمها أو يتسامح معها شارعها، إلاّ (الوفاق)؛ لأن شارعها شارعٌ معارضٌ وناقد؛ ولأنها دخلت لعبة الانتخابات متشحة بالعباءة الإيمانية»، فإني أرى أن ذلك قد يكون به نوعٌ من الصحة، إلا أنه ليس حقيقة عامة وقاعدة مطلقة، فهناك نرى تحركات مباركة لتأسيس لجان أهلية في إحدى أكثر مناطق المحرق بؤسا وعراقة وهي «الدائرة الخامسة» و «الدائرة الثانية»، ونرجو أن تستمر وتتواصل تلك الجهود الشعبية وتشمل جميع المحرق، وتتحلى بالدقة والحيادية والموضوعية في عملها رغما عن أنف الادعاءات والمزايدات والاتهامات من قبل التيارات الطائفية والفئوية والحزبية التي تسعى إلى التشكيك في شرعيتها وأحقيتها، فتقدم مصالح «طبيلة» الجمعية والحزب والفئة والطائفة على مصالح الدائرة والمواطنين وجميع التيارات الشعبية العامة!
من حق المواطنين تشكيل لجان أهلية، ومن حقهم مراقبة ممثليهم المنتخبين أو ما كانوا خلاف ذلك ومتابعتهم أولا بأول، ومن حقهم أن يكتبوا عن أدائهم وسلوكهم التقرير تلو التقرير، وأن يتعاون معه ممثلوهم في ذلك ويكشفوا لهم جميع أرصدتهم؛ لإثبات حسن نواياهم، حتى لو وجد النائب أن ناخبيه المستحقين هم طائرنا القومي «اللوهة» أو «شرايب البطح» أو «عضة الموت» أو «الدقس» أو «الطرثوث»، فجميعهم من خلق الله، وهم قد يكونون أيضا أعضاء في نظامنا الانتخابي التقسيمي، ولله في خلقه شئون، وللسلطة في أفعالها شجون
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1903 - الأربعاء 21 نوفمبر 2007م الموافق 11 ذي القعدة 1428هـ