العدد 1903 - الأربعاء 21 نوفمبر 2007م الموافق 11 ذي القعدة 1428هـ

فيلم سياسي ينتقد بقوة حروب أميركا

«أسود من أجل نعاج» في سينما الدانة

فيلم «أسود من أجل نعاج» - الذي يعرض حاليا في سينما الدانة - سياسيٌّ من الدرجة الأولى. فالشريط الدرامي قام على فكرة إدانة الحروب الأميركية في الخارج، وتحديدا تلك التي افتعلتها إدارة جورج بوش في أفغانستان والعراق.

درامية الفيلم اعتمدت على وقائع تلك السياسة الخارجية التي وصلت إلى شفير الإفلاس. فالمخرج روبرت ردفورد استند إلى إخفاقات الحروب ليبني عليها مجموعة مواقفَ نقدية ليست بعيدة عن المناخات السلبية التي أخذت تتجمع في أروقة الكونغرس واستوديوهات هوليوود المعارضة لإدارة البيت الأبيض.

فيلم «Lions For Lambs» قام ببطولته سناتور (توم كروز) يميني رجعي ينتمي إلى الحزب الجمهوري ويؤيد سياسة الحروب بذريعة الدفاع عن المصالح الأميركية وحماية الولايات المتحدة من هجمات الإرهابيين، وصحافية (ميرل ستريب) لعبت دورا في تلميع صورة السناتور الشاب وساهمت في ترويج شخصيته في طريقه إلى الصعود لقيادة الحزب الجمهوري وتجديده، وأستاذ جامعي (روبرت ردفورد) يدرس مادة العلاقات الدولية في فرع العلوم السياسية في جامعة أميركية ويحمل أفكارا ليبرالية اكتسبها بعد تجربته المُرّة في حرب فيتنام.

هؤلاء الثلاثة لا يعرفون بعضهم ولكن مواقفهم من الحروب الأميركية في الخارج شكّلت تلك المادة السياسية التي اعتمد عليها المخرج لصناعة الفيلم. فالسناتور المعجب بالصحافية - التي كتبت عنه سابقا مقالات إيجابية ومدحت نشاطه المميز وديناميته في الحزب - استدعاها على عجل لعقد مقابلة معه في مكتبه في الكونغرس. فالسناتور الحيوي أراد إعطاء الصحافة «خبطة» تشير إلى وجود متغيرات في الاستراتيجية الأميركية وأسلوب إدارتها الحروبَ. الصحافية التي سارعت إلى الذهاب إلى المكتب لم تكن على علم بما سيخبرها السناتور الشاب. والسناتور لم يكن بدوره يعلم أن آراء الصحافية تغيرت، ومواقفها الداعمة أو الساكتة عن سياسة الإدارة تبدلت؛ بسبب تلك الإخفاقات المتكررة التي أساءت إلى سمعة دولتها ووضعتها في مكان غير لائق.

اللقاء اللطيف بين الصحافية والسناتور بدأت تتضح معالمه المغايرة حين كشف لها رجل الكونغرس عن وجود استراتيجية أميركية جديدة في إدارة الحروب تعتمد تكتيكات الضربات السريعة وخطة توزيع المقاتلين على مجموعات صغيرة تقوم بمهمات خاطفة والإغارة على خطوط الإمداد لمنع التسلل وانتقال «الإرهابيين» من أفغانستان إلى العراق عن طريق إيران التي تغض حكومتها الطرف عن تلك المجموعات المتنقلة.

الصحافية تعاملت مع الخبر الخطير بسلبية ورفضت التجاوب مع رؤية السناتور الشاب الطموح وقناعاته. فرجل الكونغرس هو من اقترح الخطة الجديدة ولذلك طلب من الصحافية ترويج الفكرة وتزيينها بوصفها تشكّل ذاك العلاج الحكيم لمجموعة إخفاقات عسكرية. الصحافية لم تتجاوب مع الخطة بل إنها استنكرت سياسة المعاندة والإصرار على تَكرار الفشل. السناتور اعتبر كشف الخطة يشكّل «ضربة صحافية» فهو لا يقدم لها تصورات وإنما معلومات عن استراتيجية عسكرية جديدة بدأت القوات الأميركية تنفيذها قبل ربع ساعة في أفغانستان. الصحافية ذهلت للخبر ولكنها انصدمت نفسيا؛ لأنها لا تريد ان تكرر حماسها السياسي الذي استغلته الإدارة للسكوت عن استراتيجيتها أو لترويج حملاتها العسكرية والدفاع عنها.

هذا مشهد من الصورة. المشهد الآخر تركز على ذاك الجدل بين أستاذ العلوم السياسية في جامعة أميركية وتلميذ ذكي ولامع من تلامذته. الطالب حضر إلى مكتب الأستاذ في الجامعة بناء على طلب الأخير ورغبته. فالأستاذ استدعى التلميذ لمعرفة الأسباب التي أدت إلى تراجع علاماته وعدم حضوره ساعات التدريس بعد ان كان من ابرز الطلبة في صفه. النقاش بين الأستاذ والتلميذ رائع في إشاراته ولا يقل سخونة عن ذاك السجال الذي دار بين السناتور والصحافية. فالموضوع واحد وكله يدور حول سياسة الولايات المتحدة الخارجية والفوائد التي تجنيها من الحروب والمضار التي تحصدها بسبب تلك الإخفاقات.

إلا أن الأهم في المسألة هو كيف يجب التعامل مع القضايا الحارة والتهديدات. وما هي الوسيلة الأفضل في حماية المصالح الأميركية. الانسحاب. البقاء. تعزيز القوات. تغيير التكتيكات. تبديل الاستراتيجية. مغادرة أهم وأخطر وأغنى المناطق في العالم. مكافحة الإرهاب. مصالحة الإرهابيين. العمل على كسب الشعوب بأسلوب مخالف للقوة... إلى آخر النقاط التي تشكل أسئلة الحاضر الأميركي وما يدور حوله من خلافات داخلية في الشارع والجمهور الحزبي.

مادة النقاش بين الأستاذ الجامعي والطالب والسناتور والصحافية شكّلت وحدة فكرية للسيناريو، إلا أن المفاجأة ليست هنا وإنما في الجنود (الأسود) المساكين الذين طُلِب منهم البدء بتنفيذ الاستراتيجية الجديدة التي تعتمد الغارات السريعة والموجات الصغيرة.

الجنود هم الابطال وفي الآن ضحايا سياسات يصوغها رجال الكونغرس (النعاج) من دون دراسة لتعقيدات الواقع وصعوبة السيطرة على بلدان بعيدة لا يعرف عن تضاريسها الطبيعية وطبيعة شعوبها سوى القليل من المعلومات.

الجنود هم الرابط المعنوي بين مكتب الأستاذ الجامعي ومكتب السناتور. فرجل الكونغرس يتحدث بحماس لفظي عن خطته الجديدة والناجحة للصحافية على حين ابرز جنود الحملة التي انطلقت في أفغانستان يقودها طالبان ناجحان كانا يدرسان في الجامعة بإشراف الأستاذ.

هذا الرابط بين المكتبين جعل من سيناريو الفيلم قوة سياسية/ إنسانية؛ إذ في الوقت الذي كان يتبجح رجل الكونغرس ويدعي امام الصحافية أنه اكتشف الخطة البديلة التي ستنقذ سمعة أميركا وترفع معنوياتها وتؤكد صحة توجهاتها كان الجنود الذين توجهوا للاستيلاء على موقع عسكري لتنظيم «القاعدة» في جبال أفغانستان يتعرضون لكمائنَ وإطلاق نار وفشل مريع انتهى بمقتل الطالبين اللذين غادرا الجامعة والتحقا بالجيش ليس حبا بالحرب وإنما قناعة بأن الولايات المتحدة يجب ان تتغير وتغييرها يأتي من الداخل، وهذا لا يكون الا بعد انخراط النخبة في مؤسسات الدولة. وبما ان الجيش يعتبر العمود الفقري للإدارة فلابد ان يبدأ التغيير من هذا الجهاز المركزي.

الطالبان قبل توجههما إلى جبهة أفغانستان بحثا الفكرة مع الأستاذ. والأخير طلب منهما عدم الإقدام على هذه الخطوة؛ لأن النتيجة العملية لا فائدة منها. الطالبان رفضا استنتاج الأستاذ المخضرم وصاحب تجربة سابقة في فيتنام وذهبا إلى أفغانستان ولقيا حتفيهما في ضوء خطة جديدة ابتكرها سناتور في الكونغرس.

هذه اللحظة/ المأساة أعطت قوة دفع للفيلم الذي يعتبر من العيار السياسي الثقيل وينسجم كثيرا مع فضاءات ثقافية أخذت تقتحم الشارع الأميركي وتحديدا النخب المحايدة أو المترددة. فاللحظة صعبة؛ لأنها أعطت نموذجا حيويا على الإخفاق، إذ بينما كان السناتور يدعي البطولة والذكاء والقدرة على الابتكار في مكتبه، تلقى الاتصال الذي نقل إليه فشل العملية.

نهاية الشريط السينمائي قاسية. والأقسى من النهاية ان كل الاطراف الأميركية غير قادرة على فعل أي شيء للتغيير. حتى الصحافية التي توترت من ادعاءات رجل الكونغرس ورفضت الانجرار معه في سياسة ترويج خطته العسكرية الجديدة وجدت نفسها حائرة بين التصرف مهنيا وإعلان خبر الحملة وتلك الاستراتيجية وبين السكوت وتهديد مستقبلها المهني بالانهيار. والأستاذ الجامعي لا يعرف ماذا يفعل فهل يترك موقعه أم أنه يقبع في مكتبه يراقب سقوط أفضل تلامذته في معاركَ وهمية وانتصارات بائخة؟ والتلميذ أيضا يتردد فهل يواصل نشاطه الدراسي وينال شهادة تؤهله للدخول في المؤسسة أم ينعزل في منزله أم يتوجه إلى جهة الحرب ويستنزف أيامه في وقت ضائع؟

المخرج نجح في ترك الساحة مفتوحة للتأويلات والترجيحات والاحتمالات. وهذا بالضبط ما أراد قوله: أميركا ضائعة وشعبها مسكين لا يعرف ماذا يريد وإذا أدرك المشكلة لا يمتلك أدوات الحل أو التغيير.

الضياع مأساة أميركا وهي حائرة في اختيار النهج السليم دفاعا عن مصالحها في وقت لابد أن تحترم فيه حقوق الإنسان وحرية الشعوب.

العدد 1903 - الأربعاء 21 نوفمبر 2007م الموافق 11 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً