العدد 1903 - الأربعاء 21 نوفمبر 2007م الموافق 11 ذي القعدة 1428هـ

الفتاة «أسامة»... إرادة «مفضوضة»

يُؤسَرُ المشاهد لا إراديا بإغوائية اسم الفيلم الأفغاني «أسامة»، الذي أخرجه الأفغاني صديق برمك بمشاركة المخرج الإيراني محسن مخملباف، فما يعصفُ بنا يُجبرنا على مشاهدة «أسامة»؛ لنستطيع تصنيفه على أنه «أميركي»، «جهادي/ قاعديّ».

يعدّ هذا الفيلم أول فيلم منذ سقوط نظام الحكم السابق، مسرحه المفترض أرض أفغانستان مكانا، باكستان واقعا، وفترة حكم طالبان زمانا.

خلافا للتوقعات فإن اسم «أسامة» بما يحيله في الذهن من معانٍ سلبية غالبا ليس حاضرا في الفيلم أساسا، على رغم وجوده المحوريّ في مجمل الحوادث الواقعة على الساحة الأفغانية. تكتشف مع الفيلم أن اسم «أسامة» ما هو إلا طارئ كطروء شخصية أسامة على تاريخ أفغانستان، وأن صاحب الاسم ما هو إلا لشخص يتبيّن أنه فتاة اتخذت الاسم صدفة.

تشعر وأنت تشاهد الفيلم الذي يستمر نحو 123‏ دقيقة بعمق مأساة الأفغان الكَسَبة والعوائل والنساء، فالجميع يعاني من شظف العيش وقسوته، وليس له حول ولا قوّة، والمستفيدون مما يحصل فئة من صنف «مولانا» الذين يسارعون لالتقاط الفتات كلما سنحت لهم الفرصة، مستفيدين من تدثّرهم بعباءة الدين.

«أسامة» بإيجاز قصّة فتاة (ماهيرة غولباري) استشهد والدها وخالها في الحرب مع الروس ومعارك تحرير أفغانستان، ولم يبق لها في هذه الدنيا حالكة الظلمة إلا جدّتها وأمّها في بيت طينيّ بريف أفغانستان، يشبه غرفة الكهوف بمداخلها العتيقة وفتحات أبوابها الواسعة. تعاني هذه العائلة الأمرّين بعد اضطرار الأمّ إلى التوقف عن ممارسة مهنة التطبيب بسبب فرض «طالبان» قانونا يجرّم خروج المرأة من منزلها! ومن حكاية الجدّة عن قوس قزح (هبة رُستم) الذي يمكنه تحويل جنس إلى آخر تتولّد فكرة تغيير جنس الفتاة!

فعلا، تلجأ الأمّ إلى الحيلة فتلبس ابنتها ملابس زوجها المتوفى، وهو ما يمكّن الفتاة من العمل لإعالة الأسرة. سارت الأمور بشكل جيد في البداية، وحصلت الفتاة على عمل يدرّ عليها القليل القليل من المال، إلا أن النكسة ستأتي فيما بعد حين تأمر الحكومة بضمّ كل الصبية إلى المعسكرات الجهادية والمدارس الدينية من أجل تحويلهم إلى مقاتلين، وهو ما لا يستثني «أسامة» (الاسم الذي أطلقه صديق صدفة). يدخل «أسامة» عالما خشنا لا يتلاءم مع رقته ونعومته كفتاة، ويتم القبض على الفتاة، وتسلّم للحدّ الشرعي الذي لا يستنقذها منه أمام القاضي سوى الشيخ العجوز الذي توهب له الفتاة زوجة، ليبقيها ذخيرة مع ما لديه في منزل متعدّد الغرف ومتعدّد الأقفال التي تمثّل حجم المعاناة الذي تتعرّض له المرأة الأفغانية؛ لتصبح في النهاية أسيرة المنزل والزوج الشهوانيّ العجوز فقط، ويكون القفل والمعاشرة القهريّة رمزين يختزلان الكثير من الدلالات.

ينقل الفيلم صورا لما تمارسه حركة طالبان من فظاعات، لعلّ أسوأها عدم الاكتراث بالأوضاع المزرية التي تعيشها المرأة الفقيرة الحالة والأرملة، ذلك الحرمان يدفعهنّ إلى التظاهر، أو العمل تحت تلك الظروف، وينتهي مصيرهنّ إلى الاعتقال، ثمّ محاكمات صوريّة تفتقد لأبسط قواعد الشريعة، ليطبّق العقاب في جوّ احتفاليّ، وليتحوّل طقس «وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين» إلى نزهة تستدعي التجمهر والمتابعة لحدّ القساوة يمارسها ذلك المجتمع المنكوب المستلب، خاضعا قهرا عنه لإرادة السلاح والسيف، ولو لم يكن مقتنعا بصوابية ما يجري أمامه تماما، حسبما يتبدّى ذلك من أحد المشاهد.

فيلم «أسامة» الذي عُرض ضمن فعاليات مهرجان تورنتو الدولي للسينما فاز بثلاث جوائز في مهرجان «كان» السينمائي العام 2003، وهو «الأكثر تأثيرا حيث عرض حكايته بمنطق وموضوعية رسمت حقيقة وضع المرأة الأفغانية، ومدى الظلم الذي حاق بها نتيجة الإجراءات المتعسفة والمتشدّدة وغير الإنسانية من قبل حكومة طالبان». ذلك الاهتمام والتقدير دعا البعض إلى الشكّ في تلك الخطوة، مشيرا بوضوح إلى أنها إحدى وسائل الدعاية الأميركية ضد الإرهاب.

استعانة الفيلم بطاقم تمثيل غير محترف أو من الهواة كان معظمهم من معسكرات اللاجئين والأيتام أعطت الفيلم حسَّا صادقا. فيما اكتشف المخرج البطلة صدفة ودون إعداد مسبق. وبالنسبة إلى مخرج الفيلم برمك فإنه أيضا ممن عانى من فترة حكم «طالبان»، فقد هرب من أفغانستان في السنوات الأخيرة من حكم «طالبان» إلى باكستان التي اتخذ منها ملجأ، وهناك قرأ قصة تلك الفتاة في الصحف لتصبح القصة نواة لعمل فيلمه «أسامة». وقد عاد المخرج إلى وطنه في فبراير/ شباط 2002 ليترأس مؤسسة السينما الأفغانية العائدة من جديد.

ينتهي الفيلم بصعود الشيخ باحثا عن الفتاة «أسامة»، ثم ينزل بعد وقت في حوض الاغتسال، لتعلق في الذهن صورة الأقفال العاديّ منها والمزخرف التي لا يفرّق بينها شيء، فالقيد قيد، مهما تغيّر شكله، وستبقى المرأة أسيرة العقلية المتزمّتة/ المتصلحة الحاكمة، وسيبقى الناس البسطاء (أسامة نموذجا) وقودا لصراع لن ينتهي، مستجهَلون ومستغفَلون بلا إرادة وبقفل أكبر وإرادة «مفضوضة»!

العدد 1903 - الأربعاء 21 نوفمبر 2007م الموافق 11 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً