العدد 1903 - الأربعاء 21 نوفمبر 2007م الموافق 11 ذي القعدة 1428هـ

«عَوَاصِفُ خَاسِرَةٌ»

« ثمَّة عواصفُ تعصفُ بأرواحنا... تعصفُ من وجعنا... ولكنها

خاسرة ٌ... لا تجني سوى الخسائر، إذ ما مِنْ شيءٍ تفعله تقتلعه.

كذا يكونُ حينما تكونُ أوجاعنا أكبرَ منّا أو نحنُ أصغرَ منها بكثير!»

أ. ج

تصهلُ: «لا... لا... لا...!»

يزورها طيفٌ ُقدَّ من أمانيها... تحتفي به... ترمقُ الأشياءَ من حولها، مذهولة. تصهلُ من جديدٍ. تجتذبها الأيدي... يسكبُ البعضُ على مسامعها كلماتٍ ترفضها. تتمنى لو تُحِيلُها إلى أشلاءٍ. لو تدمِّرُها بصواريخِ الغضبِ.

ما فتئتْ جاثية... ترى بعينيْن احترقتْ فيهما السَّعادةُ، وتسمّمتْ عصافيرُ الأماني كذلك فيهما. غيرُ مصدِّقة ٍ ما ترى.

بهستيريَّة جَلِيَّة تهزُّ رأسَها و تلفظ ُ لاءاتها مثنى مثنى. شالهَا يهوي تماما مثلما تهوي أحلامها في قيعان ِ المستحيل. تجفلُ فيما اللآلئ قوافل منتظمة ٌتتحادرُ من وجنتيْها .

وجعها يصرخُ فيها. تذهلُ عمَّا حولها . تسمعُ من دون انتباه ٍما يقوله المحيطونَ بها. تظلُّ جاثية ، في الوقت ذاته الذي فيه تجثمُ الأحزانُ على صدرها.

مَشَاهِدُ اليوم تعبرها. تستفهمُ في ذاتها أنْ كيفَ في اللحظة ِالتي كانتْ تعدِّها لحظة الفرح العظيم، تنقلبُ إلى لحظة التَرَح العظيم ؟!

كيفَ يحدثُ ذلك وهي التي ظلَّتْ لأعوام خمسة تهدهدُ حلمها، تترقبُ متأجِّجة تلك اللحظة التي تتمناها ؟

عيدها الذي خالتهُ حينما يأتي سيأتيها مكتحلا بشذى الفرحة، فإذا به موؤدٌ!

لمِنَ المُمِضِّ حقا أنْ تغدوَ السَّاعةُ التي نهيء فيها أنفسنا لعيدٍ وبهجة باذخةٍ، مأتما وألما لا يكتفي بنسْفِ ذلكم العيد و حَسْب، بل يوغلُ في ذلك ويحطِّمُ أيَّامنا وأفراحنا كلها!

هل هذا ما تشعرُ به أمُّ محمَّدٍ الآن؟

أبكاؤها ذهولها هستيريّتها لاءاتها جرَّاءَ ذلك ؟

ربما لا يعلمُ أولئكَ الذين يحيطونَ بها هذه الحقيقة. لا يعلمونَ أيَّ شيء يعنيه الفقدُ الشامل، الفجيعة ُ الكبرى التي لا يمكنُ إلاّ الوقوف عندها والذهول من شدَّةِ وقعها.

أمُّ محمَّدٍ الآن جافلة ٌ.الدموعُ تنهمر. تحدِّقُ في اللاشيء ... يطغى عليها الصمتُ المخيف. تفكِّرُ. تتذكَّرُ . بغتة تلتفتُ ... تلمحُ مَنْ حولها، يتهشَّمُ شيءٌ ما بداخلها، ووحدها تسمعُ صوته. تخفضُ رأسها ... تنتفضُ ... لا شعوريَّا مجدَّدا تصهلُ!

بالقربِ من بيتها، و تحتَ شمس جهنميَّةٍ، تكسرُ أنفاسُها الحارَّة كبرياءَ الريح ِ و هي تتذكرُ. صباحَ هذا اليوم، أحرقتْ أفلامَ الأحزان التالفة، و فقأتْ مشاعرَ الأسى. تقلَّدت السعادة َ، و اختالتْ بها. ربّما لا تكونُ أمنيتها التي حسبتها ستتحقق اليوم من تلك الأماني العِظام، والتي تجهدُ أصحابها في سعيهم لتحقيقها، لكنها أمنية ٌعزيزة ٌ ضنَّ بها الدهرُ عليها؛ ففي زمن الحروب يرتفعُ سعرُ الأماني والرغباتِ البسيطةِ فضلا عن الأماني العظام إلى ما لا طاقةَ لنا به، كلما ازدادَ سعرُ دمِ الإنسان رخصا!

كذا كانَ من أمرها، إذ كانت تهفو إلى السَّاعةِ التي يلتمُّ شملُ عائلتها فيها، فبعدَ مقتل زوجها لم يتبقَّ لها سوى ابنيْنِ وابنة ٌ واحدة ٌ يعانقها الربيعُ الثالث عشر لها.

أما ابنها الأكبرُ فقد سافرَ مع عمّه قبلَ مقتل أبيه، و بقيَ هنالكَ في غربته. فيما ابنها الآخرُ والذي اختفى في ظروفٍ غريبةٍ مُريبةٍ هاهو قد ظهرَ أخيرا، وعادَ إليها.

أمنيتها الغالية كانت في اجتماع أبنائها بعد الشتاتِ، وهي تدركُ حاجتها إلى ابنيْها وهي التي ظلّت طيلة خمسة أعوام تنوء بأحمالِ و تكاليفِ بيتها الهَرِم، المتخم بالنتوءات.

كم زقزقت الفرحة ُ في جوانحها، وهي ترى ابنها محمَّد ٌحين فتحتْ له الباب. كم كانت على أهبَة التحليق في مجرَّاتِ الكوْنِ حينما عادَ إليها ابنها الآخر أحمد.

حينَ قالا لها بأنهما ذاهبانِ لإحضار أختيْهما زهراء ، أزْهرَ وجهها بهجة، وبدا أنَّ سفينة حلمها سترسو أخيرا، لتلقيَ بأعذبِ اللحظات لها. فليسَ سوى أنْ يعودوا جميعا، ويعود الفرحُ مزدانا بساعات حريريّة.

هكذا نحن، حينما نستشعرُ اقترابَ المسافةِ الموصلةِ إيَّانا إلى مدن الفرحِ ، نستعجلُ الخطى. ربما عن حمقٍ وربما عن حسن نيّة أو سذاجةٍ .نخالُ أنّ كلَّ شيءٍ انتهى، ولا احتماليَّة ممكنة للحيلولة دون الوصول إلى ما نرومه. بغتة نتعثرُ أو ربما يرمي لنا القدرُ بورقته الرابحة فتتهاوى أبراجُ آمالنا، ثم نغنمُ الهواءَ و حزنا شرسا!

هي التي ركلت الحزنَ خارجا وأوصدتْ أبوابَ قلبها، انقضَّ عليها الحزنُ و دمَّرَ أسلحة آمالها كلها، فركعتْ. أصبحتْ مثلَ السياساتِ العربيَّةِ، هزيلة وهشَّة.

تجيلُ النظرَ فيمَنْ حولها، تنظرُ وفي عينيْها يئنُّ السؤال ُعن الفاعل.

مَنْ الذي وَأدَ حلمها ؟!

مَنْ الذي افترسَ أفراحها ؟!

مَنْ الذي زوَّدَ حزنها بقوَّةٍ جبَّارةٍ لمْ تقوَ عليها ؟!

ليست ثمَّة َ اجابة ٌ، ربما لعدم جدواها. إذ ما الذي يمكن أنْ يفيدَ ذلك وهي التي في الحالتيْن سواء أكانت القوّات المحتلّة أم المقاومة قد خسرتْ أولادها جميعا!

تصرخُ مستفهمة عمَّا فعلوه ليلقوا حتفهم. أهي الضريبة التي تفرضها الحربُ، والتي لا تكتفي بقتلى الطرفيْن المتحاربيْن، فيطالُ الموتُ الأبرياء لا لشيءٍ سوى دفع تلك الضريبة ؟

كانت قبلَ الفجيعة بساعة انتظار، قد سمعت صوتَ انفجارٍ مدمّرٍ، فجَّرَ فيها هلعا. خرجتْ... اخترقت الصفوفَ المتراصَّة. تنظرُ في جثث الصرعى. لم تجد أيَّا من أولادها.

وبينما هي تهمُّ بالعودة لمحتْ حقيبة زهراء المدرسيَّةِ. تكهربت... انقضَّت نظراتها على الجثث مجدَّدا. وجدتهم جميعا صرعى.

الآن هي تطلقُ الصرخة إثرَ الصرخةَ ، ربما ألما وربما بكاء على ما ينتظرها في مُقبِلِ الأيَّامِ. إذ ما مِنْ أحدٍ تبقى لها ليؤنسها أو ليعينها في المستقبل. تتمنى في سرِّها لو يفتِكُ بها الموتُ هي أيضا. يهمُّ البعضُ بمحاولةِ إبعادها عن المكان .

تجتاحها عواصفٌ غضبى، لا ترأفُ، لكنها خاسرة ٌ؛ إذ لا شيءَ تغنمه. ثمَّ تهدأ فيما العواصفُ مستمرّة ٌ. يتمُّ إبعادها أخيرا وهي تصرخُ : « عودوا ... عودوا ... عودوا»!

العدد 1903 - الأربعاء 21 نوفمبر 2007م الموافق 11 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً