فقط 3 في المئة من السواحل متاحة لعامة الناس. القرى الساحلية تئنّ وتشتكي من التفريق بينها وبين بحرها؛ بيوت السنابس والديه حُرمت من مداعبة أمواج البحر حين كان البحر ملاصقا لجدرانها. بحارة السنابس حاليا يحتارون أين يرسون قوارب صيدهم، فكل الساحل مملوك لأصحاب الفنادق والمشروعات السياحية التي لا علاقة للمواطن بها إلا قليلا، فالمداخيل الهائلة ذات مردود ضئيل على الشعب، والموظفون أكثرهم أجانب. أما بعض القرى كقرية صدد وتبعتها قرية سند، فلم يبقَ لهم سوى رائحة البحر التي يشمونها من وراء الجدر المنصوبة كبرزخ يحول دون التقائهم ببحرهم.
الكثير من المواطنين لا يدرون أين تقع جزيرتي أم الصبان وأم النعسان وغيرهما، وآخرون يرقدون في باطن الأرض ولم يسمعوا عن تلك الجزر شيئا، وأكثرنا لم يشاهد جزيرة جده إلا بعد أن فُتح جسر الملك فهد، ولكن لم نلمس ترابها ولم نجلس يوما على رمال سواحلها. وفي الوقت الذي تسعى بعض الدول الرأسمالية العتيدة في رأسماليتها لاستعادة الجزر والسواحل وغيرها من مثل تلك الأملاك وتضمها إلى الملكية العامة حتى يستمتع المواطنون بكل شبر من وطنهم كما يحدث في بريطانيا؛ العكس تماما يحدث في بلد مسلم يحرّم الإسلام التملك الخاص لرقبة مثل تلك المصادر الطبيعية للثروة.
80 في المئة من الأراضي خالية، وكثير منها أراضٍ ميتة، لا تصلح للبناء عليها ولا زراعتها، ولكن كلها تم تمليكها لأفراد قلائل، لا ينتفعون بها ولا يتركونها لغيرهم ينتفع بها. ولو استنطقنا الإسلام، لعرفنا أنه يُشترط لتمليك مثل هذه الأراضي، أن يقوم الفرد بإحيائها ودفع ضريبة للدولة يطلق عليها الفقهاء المسلمون بـ «الطسق»، ويتم استرجاع الأرض منه لو أهملها وعادت بائرة كما كانت. بلال بن الحرث، أقطعه رسول الله (ص) أرضا ميتة فيها معدن، وحين علم الخليفة عمر بن الخطاب (رض) في أيام خلافته، أن بلالا لم يحييها، خّيره بين أن يحييها أو يتم استرجاعها منه، أو يحيي ما يقدر عليه ويترك الباقي للمسلمين، ولمّا احتج بأن رسول الله (ص) من أقطعها إياه، قال له، إنما أقطعك إياها لتحييها، لا لتعطلها، يقول بن قدامة: «استرجع عمر منه ما عجز عن إحيائه من العقيق الذي أقطعه إياه رسول الله (ص)ولو ملكه لم يجز استرجاعه» (المغني - عبدالله بن قدامه - ج 6 - ص 165)، ثم أصدر قانونا يمنع تحجير الأرض - أي حجزها - لثلاث سنوات من دون إحيائها، وبعدها يحق للدولة سحبها منه، ودفعها لغيره.
الأراضي الساحلية في بلدنا تُمنح لبعض الأفراد المتنفذين، تُبنى عليها الفنادق والمنتجعات السياحية ذات العوائد الكبيرة، وأراض أخرى تُقام عليها المنتزهات وألعاب كبار المترفين، ولكن ما هي الضريبة التي تفرضها الدولة على أصحاب تلك المشروعات لصالح الشعب وخصوصا الطبقة الضعيفة؟ وبأي معايير يتم منح البعض مثل هذه الأراضي ويمنع آخرون؟ وأين القانون الذي استندت إليه الحكومة في هذا الشأن؟
الدستور قيّد جميع الصلاحيات في هذه الثروات، وخصوصا الأراضي والسواحل والبحار والجزر، كما في المادة 37 التي تتحدث عن إبرام الملك للمعاهدات بمرسوم، وتشترط أن يكون أي مساس بأراضي الدولة أو ثرواتها الطبيعية يجب أن تصدر بقانون. وإذا كان لا يجوز التنازل عن أي شبر أو جزيرة لجهة خارجية إلا بقانون، فبأي قانون أصبحت السواحل وجزر بكاملها ملكا خاصا؟ هل تم توزيع 90 في المئة من البلد على قلة من الأفراد بطريقة الهبات حتى أصبحت الملكية العامة لهذه الثروات استثناء، ولماذا مازالت مساحات شاسعة من الأراضي الميتة، وأعداد من الجزر مغلقة أمام المواطنين؟
المشكلة أن دستور 2002 يحتوي على عدد من المصطلحات التي لا تفرق إحداها عن الأخرى (أملاك الدولة، أموال الدولة، الأموال العامة)، ولا يخفى - كما يقول لي أحد القانونيين - أن ذلك دليل على تعدد وتنافر أهواء من كتب وغيّر في الدستور، وإن افتقاد الدستور لتعريف دقيق لأنواع الملكيات العامة، سيضيع بقية الثروات. ولكون الدستور جعل الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع، فإنه يجدر تقسيم الأملاك العامة لقسمين، كل قسم له أحكام تختلف عن الآخر، وهي كما يطلق عليها المفكرون الإسلاميون: أملاك أمة وأملاك دولة. وما يُسمى في عرف اليوم بـ «الأموال الخاصة للدولة» هي نفسها أملاك الدولة، كالأراضي الميتة، مثل جبل الدخان الذي نأمل أنه مازال في ملك الدولة، ولم يصبح ملكا خاصا بعد. ومثل هذه الأملاك لا يصح التصرف فيها وتمليكها لأحد إلاّ وفقا لما تمليه المصلحة العامة.
أما مثل المعادن الظاهرة التي لا تحتاج إلى جهد كبير لاستخراجها وتطويرها، كالنفط، والمياه الطبيعية المكشوفة كالبحار، والمياه الجوفية، والأراضي الخصبة بذاتها*، فهذه كلها وغيرها، أملاك للأمة، ويُطلق عليها في عرف اليوم بـ «الأموال العامة للدولة «. وتنحصر الاستفادة من هذه الملكيات في مجال المصالح العامة، والتي تعود بفائدتها على عموم الشعب، كبناء المستشفيات والمدارس العامة. وإذا جاز للحكومة تمليك الأموال الخاصة للدولة بشروط، كقول الرسول (ص): «من أحيا أرضا ميتة فهي له»، فإن أملاك الأمة «الأموال العامة للدولة» لا يجوز تمليكها لأحد ملكية خاصة، لأنها ثروات طبيعية جاهزة، لذلك تشترك فيها كل الأمة، وأقصى ما في الأمر تأجيرها واستيفاء المردود لصالح الأمة.
الهدف المهم جدا من هم وراء هذا التقسيم، والذي خالفته تصرفات الحكومة، أن تكون لكل ملكية أحكام تختلف عن أحكام الملكية الأخرى، من أجل تمكين الحكومة تعديل الميزان الاقتصادي في المجتمع بواسطة هذه الثروات «والحيلولة دون تكدّس الثراء في أيادي فئة وسحق الفئة الفقيرة». ولكن ما جرى في بلدنا عكس ذلك تماما، فقد تسببت تصرفات الحكومة في الأملاك العامة والخاصة للدولة في تكريس التفاوت الاقتصادي الفاحش بين طبقات المجتمع، والذي فاق كل تصور، لدرجة أن واقع البحريني الذي يُفترض أنه ثاني أغنى فرد في الخليج بعد الإماراتي، أصبح أسوأ من غالبية الخليجيين. لقد تم تمليك أشخاص متنفذين بعض الثروات الطبيعية التي لا يجوز تملكها ملكية خاصة. وإذا ما تواصلت هذه السياسة الخاطئة، فلن يبقى للأجيال القادمة شيء.
* ملاحظة: يوجد استثناء بخصوص الأراضي الخصبة التي أحياها الناس حين الفتح الإسلامي فإن أحكامها الشرعية بالنسبة للبحرين تختلف عن بقية البلدان التي أسلمت بإيجاف خيل وركاب، أي عنوة كأراضي العراق، فكون أهل البحرين أسلموا طواعية، أقر الإسلام تملكهم الخاص لأراضيهم التي كانوا أحيوها قبل الفتح الإسلامي بأيديهم.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1902 - الثلثاء 20 نوفمبر 2007م الموافق 10 ذي القعدة 1428هـ