نعيب على تيارات الإسلام السياسي، وخصوصا جماعة الإخوان المسلمين وغيرها، استغلال الدين في العمل السياسي، للوصول إلى الحكم... لكننا نعاني الآن من استغلال الساسة والسياسيين، وخصوصا النظام والحكومة، للدين لترسيخ السلطة حتى ولو كانت منفردة، وتحقيقا لأهداف سياسية وحزبية لم تستطع تحقيقها بالوسائل العادية... والمدنية!
هكذا بدأت المؤسسة الدينية الإسلامية والمسيحية في مصر مثلا، أي الأزهر ودار الإفتاء من ناحية، والكنيسة، خصوصا الأرثوذكسية من ناحية أخرى، تلعب أدوارا مركبة ومتعددة في الحياة العامة، وتتدخل بدرجات متفاوتة في العمل السياسي العام، وتدلي بدلوها، عبر الفتاوى والعظات في أمور مدنية بحتة، خارقة صميم مهمتها.
ولعل هذا يشير إلى الاستغلال المتبادل بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية، على نحو يتناقض مع مبادئ العمل في الدولة المدنية العصرية، بكل مرتكزاتها القانونية والدستورية، مثلما يشير إلى لجوء بسطاء الناس إلى المرجعية الدينية، بعد أن فقدت المؤسسة السياسية المدنية بعض أدوارها، أو بعد أن تنازلت عن مهمتها في إدارة شئون الدولة وتدبير حياة المواطنين والتصدي لمشكلاتهم الحياتية.
ونظن أن هذه التحولات الواضحة تشكل خطرا حقيقيا على فكرة الدولة الحديثة، التي تعمل مصر على بنائها خلال القرنين الأخيرين، بعدما خرجت من عباءة الامبراطورية العثمانية، التي كانت تتخفى وراء الخلافة الإسلامية، غطاء لحكمها وأطماعها ومشروعاتها السياسية... فلماذا العودة الآن إلى استعارة الغطاء الديني «الشكلي» وإلى الاستعانة بتأثير المؤسسة الدينية، مسجدا أو كنيسة، اللهم إلا أن يكون الفشل الظاهر للدولة المدنية التي بشر بها رواد عصر النهضة مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، من رفاعة الطهطاوي إلى محمد عبده، ومن قاسم أمين إلى علي عبدالرزاق، ومن أحمد لطفي السيد إلى طه حسين!
وعلى رغم أن العصر الإسلامي الزاهر، قام على أكتاف الخلافة الراشدة، فإن حلم الشورى وحرية الجمهور في اختيار خليفته الأصلح، سرعان ما انتهى سريعا، بانتقال الدولة الإسلامية، وقد توسعت وتمددت إلى الحكم الفردي ثم الحكم الوراثي، على أيدي معاوية بن أبي سفيان الذي أسس الدولة الأموية، والذي فرض نظام الوراثة عليها، بتعيين ابنه يزيد، خليفة من بعده، مستعينا بالغطاء الديني ومستجدا ومجندا لفقهاء السلطان من حوله لكي يبايعوا الابن بعد الأب، ليكون مثلا يحتذى.
ومنذ ذلك العصر ونحن نسير على هذا المنوال، إلا قليلا، في الاستعانة بالمرجعية الدينية لتولي الحكم أو تثبيته وإكسابه الشرعية، في تقليد غير إسلامي من ناحية، وفي التشبه بالحكم الأوروبي خلال العصور الوسطى، حين كانت الكنيسة هي المرجعية لإكساب حكم النبلاء والأمراء والامبراطوريات الشرعية السياسية... ولولا أن أوروبا تخلصت من هذه الوصاية الكنسية في عصور النهضة، لما أصبحت على ما هي عليه اليوم.
وعلى رغم أن نابليون بونابرت كان أحد أهم إفرازات عصر النهضة الأوروبي والثورة الفرنسية، ثورة الحرية والمساواة، إلا أنه حين غزا مصر في نهايات القرن الثامن عشر، أعاد فكرة استعارة الغطاء الديني لتبرير حكمه واحتلاله، وبعدما دهم الأزهر بخيوله الجامحة، سرعان ما أعاد هو وخلفاؤه، الهيبة للمؤسسة الأزهرية، مستفيدا بتأثيرها، حتى أن بعضهم أعلن إسلامه شكليا ليقنع المصريين بأنه حاكم منهم... ولكن!
كذلك فعل محمد علي مؤسس الدولة الحديثة العام 1805، حين استعان بجمهرة الفقهاء وعلماء الأزهر «قادة الشعب» ليضفوا على توليه الحكم الشرعية اللازمة... ومنذ ذلك التاريخ ومصر تسير على المنوال نفسه مع تحديث الطرق وتجديد الوسائل... حتى ان ثورة يوليو 1952 وقيادتها التاريخية ممثلة في جمال عبدالناصر، لم تستطع إلا أن تحتمي بالمؤسسة الدينية الإسلامية، وإلا أن تمد خيوط تعاونها وودها مع البطريركية الأرثوذكسية... ومازال الحبل ممتدا حتى الآن بدرجة من الدرجات!
نقول ذلك، ونحن نتابع تنامي دور المؤسستين الدينتين الإسلامية والمسيحية، في لعب دور سياسي عام، وفي الانخراط، أو التورط، في شئون مدنية لا تدخل في صميم اختصاصهما، بل تدخل في صميم عمل الدولة الحديثة ومؤسساتها وسلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية، التي تستمد شرعيتها عادة من الدستور والقوانين المنفذة له، أي من سلطة الشعب.
وانظر على سبيل المثال للموجات المتتالية من الفتاوى والعظات الدينية، التي تصدر في كل شأن، والتي تتورط في أمور سياسية بحتة، بعضها يتسق مع الدين، وبعضها الآخر يتناقض مع أصول الدين ومع طبيعة تطور الحياة العصرية، وبقدر ما تتطوع المؤسسة الدينية أحيانا بهذه الفتاوى، بقدر ما تستجيب لمطالب حكومية ومتطلبات سياسية، ما يوقعها في التناقض!
وتأمل الفتاوى المتناقضة والمتلونة وفقا لبوصلة التوجيه السياسي المباشر، بشأن توظيف الأموال، وفوائد المصارف، والختان وتحديد النسل، وولاية المرأة وغير المسلمين وتولي المرأة القضاء، فضلا عن موضوعات شائكة أخرى مثل مفهوم الجهاد والعمليات الاستشهادية المحمودة تارة والانتحارية المكفرة تارة خرى... لقد قرأنا وسمعنا الكثير المتناقض بشأن هذه الموضوعات، فالتبس الأمر على عامة الناس، بينما اكتفت النخبة الواعية بالقول إن هذه فتاوى سياسية يصدرها فقهاء السلطان!
وحين أفتى فقهاء المؤسسة الدينية الإسلامية مثلا، بضرورة إدلاء المواطنين جميعا بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة، باعتبار التصويت «شهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه»، مضت المؤسسة الكنسية على المنوال نفسه، وصدرت التوجهات في العظات الدينية للمسيحيين بالتصويت لصالح مرشح معين في هذه الانتخابات أو تلك. ولم يكن ذلك إلا بسبب تجنيد الدولة للمؤسستين الدينيتين والاستفادة من تأثيرهما على الناس، لكي يصوتوا في انتخابات سياسية بعد أن انصرف الناس عنها... وبالمثل لم يكن ذلك إلا رجوع الناس البسطاء للمؤسسة الدينية كمرجعية، في غيبة الشرعية السياسية والمرجعية الدينية في الدولة الحديثة.
ولذلك لم يكن غريبا على الإطلاق أن تقوى التيارات الدينية وتنشط المرجعيات الإسلامية والمسيحية، سواء المرتبطة بسياسات الدولة، أو تلك المتمردة عليها، فحين تغلق الدولة بسياساتها الطرق والأبواب في وجوه الناس، يلجأ هؤلاء إلى المسجد والكنيسة، ليس للصلاة والتعبد، ولكن بحثا عن حلول لمشكلاتهم اليومية المعقدة، وفوق هذه المشكلات عامت تيارات ومنظمات إسلامية ومسيحية كثيرة، تبني دولة موازية، وتتولى القيام بمسئوليات حياتية، عجزت الدولة الحديثة عن الوفاء بها كما يجب... فإلى أي مرجعية يلجأ الناس إذا؟!
لقد صُدم الرأي العام، فضلا عن الفقهاء الثقاة مثلا، بالفتوى الدينية التي قالت إن الغرقى ضحايا الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، طماعون وليسوا شهداء، بينما هناك نص صريح بأن الغريق شهيد، وأظن أن أجهزة رسمية سعدت بهذه الفتوى الخلافية، وشعرت المؤسسة السياسية إنها تستفيد منها في صورة من الصور، لكن أحدا من المؤسستين الدينية والسياسية لم يقل للناس، لماذا ألقى هؤلاء الشبان بأنفسهم في التهلكة، لماذا غامروا بركوب البحر إلى المجهول، لماذا تركوا أسرهم وهجروا قراهم أملا في وهم كاذب؟
لقد كنت أتصور أن يعترف الجميع بأن السبب هو الفقر والبطالة والإحباط والغلاء الذي يدفع الشباب إلى محاولة فتح طرق جديدة إلى المستقبل، حتى لو كانت طرقا تجدف في أعالي البحار أو تحفر في الصخر وتموت في التيه... لكن الذي حدث هو العكس تماما، لم تحل المؤسسة السياسية مشكلاتهم كما يجب، ولم ترحمهم المؤسسة الدينية فدمغتهم بلعنة الطمع، فخسروا الدنيا والدين.
وهذه مجرد حالة واحدة من حالات الالتباس العام، بين الفتوى الدينية وبين الرغبة السياسية، تتبعها وتسبقها حالات كثيرة، لن تؤدي إلا إلى الانتقاص من هيبة المؤسسة الدينية من ناحية، ومساعدة المؤسسة السياسية على المضي في عدم التصدي للمشكلات الحياتية والاجتماعية للبشر من ناحية أخرى، وفي الحالتين الخسارة مؤكدة، والضحية هو الشعب المنهك والضائع، بين بعض الفتاوى الدينية، وكثير من الفشل السياسي، بينما شبح الدولة المدنية العصرية يتوارى. غفرالله لمعاوية وابنه يزيد، اللذين نقلا الدولة الإسلامية من الخلافة الراشدة، إلى الخلافة الوراثية واللذين رسخا حتى الآن، لاستعارة الغطاء الديني للعبة السياسية، بما في الأول من السمو وما في الثانية من التدني البالغ، فإذا بنا اليوم أمام فتاوى الولاء الكامل والطاعة المطلقة للبشر، خصوصا إذا كانوا حكاما، وليس لله العلي القدير!
ليت فقهاءنا وكرادلتنا يعيدون النظر... نحو الحق وحده.
خير الكلام
يقول الخليفة علي بن أبي طالب:
ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه.
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1902 - الثلثاء 20 نوفمبر 2007م الموافق 10 ذي القعدة 1428هـ