في الصحافة، غالبا ما يحتل الرقم الكبير الصدارة في العناوين، كونه يجذب الانتباه وبالتالي يكسب قراء أكثر. والاقتصاديون أكثر الناس خبرة في اللعب بالأرقام وتوجيهها على نحو مثير. ولكن، يبدو أن الحكومة أكثر دهاء في لعبة الأرقام، وأكثر مكرا في إثارة حفيظة البعض على البعض الآخر، وسيلان لعاب فقراء القوم، وتحديدا من بالكاد تصل رواتبهم إلى 200 دينار في الشهر، عوضا عن المصطفين في طوابير العاطلين عن العمل، الذين الأرقام مهما صغرت تبدو كبيرة بالنسبة إليهم. الواقع يعكسه حال شاب دخل «جمعية» وتسلم للتو مبلغ 1000 دينار، نظر إليه بفرح ما بعده فرح، وظل يقلب المبلغ وينثره حوله مستأنساَ به لما يقرب الساعة، حتى جاءه صوت زوجته يوقظه من حلم جميل عاشه لساعة فقط! ساعة لا أكثر! «غدا عليك تسليم المبلغ إلى المصرف بشكل عاجل، وإلا سيشكوننا في الشرطة».
المبلغ (1000 دينار) كبير يستدعي الاقتراض والدخول في «جمعيات». والمبلغ نفسه (مضاعفا) صغير يدخل من باب «زيادة» على راتب يتجاوزه بمرات ومرات! الخبران يستحقان النشر في الصحف، الأول في صفحات بريد القراء (كشكوى) وطلب مساعدة، والآخر على الصفحة الأولى بالبنط العريض. الأول نادرا ما يلتفت إليه ويحصل على المرجو من وراء النشر، والغريب أن المساعدة غالبا ما تكون من فقراء القوم أنفسهم أكثر منها من أغنيائهم! والثاني، يثير زوبعة ما بعدها زوبعة، بين مؤيد (مستفيد طبعا) ومعارض (يتلهف للفلس)، وفي النهاية، الغلبة للأقوى في اللعبة.
الزيادات في رواتب المستضعفين تحتاج إلى أشهر لسطرها كاقتراح، ومن ثم أشهر لدراسة الاقتراح والتباحث بشأنه، وأشهر أخرى لرفعه، وأشهر أخرى لإقرار الزيادة، وفي النهاية (إن أقرت) زيادة لا تغني ولا تسمن من جوع قد تنتظر شهورا أخرى لنيلها وتتمة إجراءات تسلمها! فيما الزيادات في رواتب الكبار، تختزل الخطوات كلها إلى إقرارها بمبالغ تعد «خيالية» بالنسبة إلى المستضعفين، قد يكدحون لأجلها سنوات، إن لم يقترضوها لتستفيد المصارف بأرباح مضاعفة عليها.
في الفقر والغنى هناك أرقام... أرقام كبيرة متفاوتة بينهما. أرقام الفقر تضجر النفس وتجعلك تأسف لوضع البلد وناسها. تستأثر الأقلام والجمعيات الحقوقية والسياسية والاجتماعية، عوضا عن المعنيين (الفقراء) أنفسهم للمطالبة بوضع حد لمهزلة «الفقر في بلد النفط» وحفظ الحقوق الإنسانية، والنتيجة «زيادة طفيفة» تبعث الحسرة و «الحرّة» تتبعها زيادة «استقطاعات»!
وأرقام الغنى، والمكشوف عنها رواتب البعض وعلاواتهم الاجتماعية وما يتمتعون به من امتيازات وسيارات فارهة (والعالم الله بالمخفي) فضلا عما يضاف إلى رصيدهم بين فترة وأخرى، تأخذ نصيبها أيضا من الإثارة، (بس على الفاضي)، فالزيادة مقرة لا رجعة فيها.
الذي يوجع القلب حقا حال ذلك الفقير الذي يبحث عن الفلس وهو يسمع بمبالغ (إضافية) تضاف إلى رصيد أناس في نظره «لا يستحقون» كونهم لم يستثمروا مناصبهم في الصالح العام ولم يكونوا عند كلمتهم التي وعدت بالخير، وإذا بالخير كله ينصب في جيوبهم، فيما ظل المواطن الفقير يكدح ويعاني ويبكي ويسمع بالأرقام الكبيرة متمنيا أن يحظى ولو بربعها ليعيش مرفها!
إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"العدد 1901 - الإثنين 19 نوفمبر 2007م الموافق 09 ذي القعدة 1428هـ