مع إطلاق برنامج دورات التدريب التوعية في مجال الثقافة القانونية لطلاب المدارس الثانوية الذي ينفذه المجلس الأعلى للمرأة مع جامعة البحرين، نُشر على ذمة مدير برنامج التعليم القانوني المستمر بالجامعة محمد المصري في إحدى الصحف المحلية بتاريخ 14 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري قولٌ يفيد أن «تشريعات المملكة تتوافق مع (اتفاقية السيداو) التي وقعت في 2002، والتي بموجبها تلتزم المملكة بكل ما جاء في بنودها باستثناء بعض البنود التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية».
في هذا الشأن ثمة بعدان نركز عليهما. الأول، إن برامج التثقيف والتوعية والتدريب على الاتفاقية لا ينبغي أن يكون الهدف من ورائها تلميع صورة هذه الجهة الرسمية أو تلك أو تسويقها إعلاميا وإظهارها بمظهر الملتزم الذي استوفى تنفيذ التزاماته، كما أن المقاصد من خلفها ليس تسجيل نقاط لصالح حضور هذه الجهة أو تلك في المحافل الدولية والمؤتمرات، وإثبات أنها قد أدت فروضها وواجباتها تجاه «لجنة القضاء على التمييز ضد المرأة الدولية»، وبالتالي الحصول منها على شهادة حسن سيرة وسلوك في معاملة المرأة وصك لإبراء الذمة. ليس الأمر كذلك كما يفهم من بين سطور التصريح المشار إليه أعلاه.
التثقيف والتوعية والتدريب
التثقيف والتوعية والتدريب في مضمون وأهداف الاتفاقية ليس عملية تلقين للمعارف والمعلومات بقدر ما يمثل جزءا لا يتجزأ من مسار ثقافة حقوق الإنسان التي تُنْتَهَك يوميا وتبسط مفاهيمها المعنية بالمساواة والعدالة والحرية والكرامة وتفرغ من مضامينها ومدلولاتها كي يعاد إنتاجها مشوهة ومبتورة في سياق التوجهات الرسمية من جهة والثقافة السائدة من جهة أخرى، وخصوصا ما يتعلق منها بالنظرة النمطية لأدوار المرأة في المجتمع.
التثقيف والتوعية والتدريب ليس عملية تقنية يراد منها رفع المهارات والقدرات وقياس الانطباعات وردود الفعل فقط على رغم أهميتها، بقدر ما هي عملية حضارية تتعلق بنشر ثقافة حقوق الإنسان وتربية النشء عليها عبر خلخلة السائد والثابت وتعرية ما يُمَارَس من عنف وتمييز ضد النساء، بل إعادة بناء الذات البشرية على مبادئ احترام حرية الإنسان، والنقد والمشاركة والنظر إلى الواقع وما يسوده من علاقات غير متكافئة بين الرجل والمرأة بصورة مغايرة.
فهذه الرؤية بحد ذاتها لا تأخذنا بعيدا عن فكرة المواطنة التي يفترض أنها تمنع التمييز وتجرّم العنف وترسّخ مفهوم المساواة بين الرجل والمرأة، وهي بخواتيمها تتطلب نظرة استراتيجية فاحصة وجادة في إطار المجتمع ككل بعيدا عن الكليشهات والدعايات المدفوعة الثمن سلفا، فضلا عن صوغ علاقات إنسانية قائمة على أسس مرجعية قانونية من خلال المؤسسات والتشريعات، لا من أجل الدعاية للمؤسسات الرسمية وترسيخ ما يسود من أعراف وتقاليدَ تتعامل مع المرأة بدونية وعلى أنها كيان ناقص، بل تبريرها في أغلب الأحيان.
في شأن ذلك، يمكننا التركيز على التزامات الدولة تجاه آلية تنفيذ بنود الاتفاقية، ولنا أن نستشهد على سبيل المثال بما ورد في كتاب «أحكام الأسرة في الإسلام» - وهو بالمناسبة كتاب يعتمد تدريسه لطلبة وطالبات المرحلة الثانوية النهائية في مدارس الدولة - إذ يُبث من خلاله أفكار ومفاهيم من الواضح تناقضها في الشكل والمضمون مع روح الاتفاقية والتزام الدولة تجاهها، إذ جاء في متنه نصا في الصفحة (61) تحت عنوان «تأديب الزوجة» ما يلي: «للزوج على الزوجة حق طاعته كأثر من آثار الزواج وإذا عصت الزوجة زوجها دون حق شرعي جاز له تأديبها على ثلاث مراحل: الأولى، بالوعظ والإرشاد والثانية بالهجر وإذا أصرت على النشوز ولم ينفع الوعظ والهجر جاز للزوج أن يضربها ضربا غير مبرح وغير مهين...»! ما يثير السؤال هنا عن مدى التزام الدولة ومساهمتها في إيجاد آليات لتغيير النظرة الدونية للمرأة في الوقت الذي تتضمن فيه كتبها التعليمية والتربوية للنشء انتهاكاتٍ صارخة واحتقارا للمرأة.
إن ذلك يعبّر بجلاء عن عجز المعنيين بنشر الثقافة القانونية وقلة حيلتهم في التأثير على هذا النمط من الخطابات التربوية التي تدرّس وتبث في المدارس الرسمية منها حتى الخاصة، وهي الجهات التي تتوافر على الصلاحيات والإمكانات والمقدرات على اختراق الثقافة السائدة وخلخلتها، وليس إعادة إنتاجها وترسيخها بكل ما يحتويها من علل كارثية.
لاشك في أن أكبر الأضرار التي تتعرض لها «اتفاقية السيداو» في مجال التثقيف والتوعية والتدريب هو اختلاط المرجعيات الدولية والعرفية السائدة وعدم وضوحها؛ ما يخلق إرباكا عند المتلقي، كما يظهرها، ازدواجية الخطاب ومراوغته في التناقض بين الالتزام بتنفيذ بنود «السيداو» وتسهيل آليات تحقيقها التي غالبا ما تبرر السائد وتقوم على تأجيل تنفيذ الالتزام بالقضاء على التمييز ضد المرأة إلى الوقت المناسب والأجل غير معلوم.
هل لديكم إرادة فعلا لإلغاء التمييز ضد المرأة؟
البعد الآخر يكمن في تصريح المصري، فيما يتعلق بالتزام مملكة البحرين تطبيق «السيداو» والتحفظ عن بعض بنودها، إذ صرح به من حيث لا يقصد عند الإشارة إلى التحفظات، فنقلنا إلى الجانب المعتم من عملية التوقيع على الاتفاقية، فالتحفظ بحد ذاته يعد غير قانوني، لماذا؟ لأنه يتعارض مع العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية، ولاسيما أن الحقوق كل لا يقبل التصرف أو التجزئة.
بحسب أستاذة الحقوق المغربية فريدة بناني في دراسة لها عن «مدى شرعية التحفظات»، تشير إلى أن التحفظ لا قيمة قانونية له؛ بسبب مخالفته القاعدة الأساسية من قواعد القانون الدولي للمعاهدات والتي تقضي أنه لا يجوز السماح بأي تحفظ عن اتفاقية يكون منافيا لموضوعها وغرضها الأساسي.
على المستوى المحلي، يرى المعنيون أن لا قيمة قانونية للاتفاقية بعدُ، يؤخذ بها في المؤسسات الرسمية؛ ما يعني أن لا صفة إلزامية قانونية بشأنها. أما ما يتعلق بالتشريعات المفترض إيجادها لإبطال «التمييز» ضد المرأة، فلابد من ملاحظة أنه لايزال أمامنا شوط طويل يمكننا من خلاله الجزم قولا إن تشريعات المملكة متوافقة مع «السيداو» بالمطلق، إذ لا يوجد حتى هذه اللحظة قانون لـ «الأحوال الشخصية» ولا آخر يجرم التمييز والعنف الذي يمارس ضد المرأة، وهو ما يجب التوعية والتثقيف بخصوصه والمطالبة به آلية تتيح «التجريم والإبطال»، بمعنى «تجريم» العنف و «إبطال» التمييز ضد المرأة في حال وجوده.
في سياق التحفظات عن بعض المواد الأساسية، نتفق مع تساؤلات بناني ونعيد تكثيفها وتوجيهها إلى المعنيين بعملية تنفيذ التثقيف القانوني: ألا تشكل التحفظات إقرارا بغياب الإرادة لإلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة؟ ألا يشكل هذا الإقرار عدم التزام بتطبيق بنود الاتفاقية؟ لماذا يتم التذرع بالقوانين الداخلية والخصوصية الثقافية بهدف استبعاد مقتضيات الاتفاقية ورفع راية الذاتية الثقافية كلما تعلق الأمر بالنساء وحقوقهن؟ لماذا لايزال التمييز ضدها يعتبر ممارسة مقبولة؟
إلى جانب ذلك، يستوجب التذكير أن المملكة تتحفظ عن بنود المواد التالية: (2 و9/2 و15/4 و16 و29/1)، علما أن هذه البنود تمثل روح الاتفاقية وجوهرها؛ ما يتطلب طرح السؤال: لماذا تم تصديق الدولة على هذه الاتفاقية في الأصل والتحفظ عن موادها الأساسية والجوهرية؟ ولاسيما أن الملاحظ أن التشريعات البحرينية لا تتضمن مصطلح «التمييز ضد المرأة»، ولعلنا في قراءة مواد دستور 2002 (1 و4 و5 و13 و16 و18) نجد أنه تم الاكتفاء بالإشارة إلى عدم التمييز بسبب الجنس والأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة أو غيره.
لذا فبتحفظ البحرين عن المادة (2) المتعلقة بشجب جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والمادة (9) المتعلقة بمنح الجنسية لأبناء المرأة المتزوجة من أجنبي والمادة (16) المتعلقة بالمساواة بين الرجل والمرأة في كل المعاملات المتعلقة بالزواج والعلاقات الأسرية، فقد تم إفراغ الاتفاقية من محتواها، لماذا؟ تجيب بناي لأن هذه البنود بمثابة القلب النابض للاتفاقية، ومحورها الأساسي؛ لأنها تنص على غرضها الأساسي والتزام الدول الأطراف القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة ومظاهره المختلفة، كما يضعف بشدة موقف المطالبين بسنّ قانون للأحوال الشخصية الذي لايزال يمثل نقطة خلافية تتجاذبها المصالح السياسية بين الطرف الرسمي من جهة وتيارات الإسلام السياسي ومرجعياته الدينية المتشددة من جهة أخرى.
خلاصة القول، بعيدا عن كليشهات الدعاية والإعلان لبرامج التوعية والتثقيف، إن التحفظ عن بعض بنود «السيداو» يعد إقرارا بوجود التمييز واللامساواة بين الجنسين في القوانين الداخلية البحرينية، كما يمثل عدم احترام وتطبيق لما سبق أن تم التصديق عليه من المواثيق التي تتألف منها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، التي تنص على اتخاذ الدول الأطراف - ومنها البحرين طبعا - جميع التدابير المناسبة لتعديل الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة؛ بهدف تحقيق القضاء على التحيزات والعادات العرفية وكل الممارسات الأخرى القائمة على فكرة الدونية أو تفوق أحد الجنسين، أو على أدوار نمطية للرجل والمرأة... إلخ! بمعنى أن تمنع الجهات الرسمية تداول وتدريس الكتب التعليمية والتربوية التي تعد على شاكلة «كتاب أحكام الأسرة في الإسلام» المعتمد الآن تدريسه في مدارس وزارة التربية والتعليم!
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1901 - الإثنين 19 نوفمبر 2007م الموافق 09 ذي القعدة 1428هـ