أنهى قادة دول «أوبك» قمتهم في الرياض وهي الثالثة منذ تأسيس المنظمة في العام 1960. فالأولى عقدت في الجزائر في العام 1975، والثانية في كاراكاس في العام 2000. وتعتبر الثالثة هي الأهم لأنها أجريت في فضاءات دولية تشير إلى وجود تأزمات إقليمية في دائرة «الشرق الأوسط الكبير» الذي يشكل نسبة 40 في المئة من الإنتاج العالمي للنفط والغاز.
وبسبب التوتر الدولي والإقليمي ظهرت على سطح المباحثات وجهات نظر سياسية تتعدى لعبة السوق وتأثيرها على أسعار الطاقة. فالدول المنتجة أكدت في بيانها الختامي في العاصمة السعودية انها تتعهد «الاستمرار في امداد الأسواق العالمية بكميات كافية» وفي «الأوقات المطلوبة». والتزمت العمل على «تحقيق التوازن في أسواق الطاقة العالمية».
بيان القمة النهائي اتجه نحو إرسال اشارات تطمين للدول المستهلكة مؤكدا أن دول «أوبك» لن تستخدم النفط سلاحا سياسيا وستعمل على تأمين الاحتياجات ضمن «مستويات مستقرة وتنافسية للأسعار». وإشارة التطمين جاءت ردا على نقطتين: الأولى هبوط سعر صرف الدولار، والثانية ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات قياسية.
البيان الختامي إذا جاء لتأكيد أن دول «أوبك» لن تدفع باتجاه رفع الأسعار خارج لعبة السوق وأنها ستلبي الطلبات المتزايدة على الطاقة حتى لا تنهار الاقتصادات التي تعتمد على النفط والغاز. والإضافة الوحيدة التي تجنب البيان الختامي الإشارة إليها كانت عدم تعرض قادة الدول إلى مسألة انخفاض سعر الدولار وهو الانخفاض الذي يساهم في تقليص مردود الدول المنتجة ويعطل عليها إمكانات توظيف الفائض النقدي في مشروعات واستثمارات تضمن توازن التقدم والتنمية لأعضاء «أوبك».
تجنب الإشارة إلى الدولار ترافق أيضا مع تجنب الدول المنتجة تأكيد زيادة الإنتاج. فالبيان اعتبر الإنتاج الحالي يتناسب مع حاجات السوق، والدول لن تزيد معدل إنتاجها حتى لا يؤثر الأمر على الاستقرار وتوازن الطلب مع الاستهلاك.
قمة الرياض كانت فعلا معتدلة في توجهاتها العامة، وهي نجحت إلى حد ما في تأمين التوازن بين مصالح الدول المنتجة وحاجات الدول المستهلكة، فهي لم تقرر رفع الأسعار لتعويض ضعف صرف الدولار، وهي أيضا لم تقرر رفع الإنتاج حتى لا يتراجع سعر برميل النفط. وفي الآن تعهدت الدول المنتجة بعدم استخدام الطاقة وسيلةَ ابتزاز سياسية مقابل حرصها على ضمان حقوقها وتعويض خسائرها الناجمة من التضخم العالمي وارتفاع أسعار إنتاج الدول الصناعية في ربع القرن الأخير.
هذه المعادلة الاقتصادية التي نجحت دول «أوبك» في ضبطها تحت سقف توازن المصالح تشكّل نقطة مهمة في قراءة السياسة النفطية ودور الطاقة في تحريك عجلة الأسواق الدولية. فالدول المنتجة متهمة دائما من قبل الدول المستهلكة وتحديدا الدول الصناعية الكبرى في أوروبا وأميركا بأنها تقف وراء زعزعة استقرار السوق الدولية واستخدام النفط وسيلة سياسية للضغط على الغرب.
هذه التهمة مفتعلة وهي تشكل دائما ذاك الغطاء لتبرير سياسات الدول الصناعية الكبرى في رفع أسعار إنتاجها بذريعة أن أسعار النفط ترتفع. ولكن الوقائع تشير إلى وجود أطراف أخرى مستفيدة من ارتفاع الأسعار وهي دائما تدفع بهذا الاتجاه ثم تتهم الدول المنتجة بأنها هي الجهة الوحيدة التي تحرك اللعبة في السوق الدولية.
أسعار النفط أصلا رخيصة في مقاسات الإنتاج العالمي وقياسا بالمواد الأولية الأخرى. فالسعر دائما أقل من قيمته التبادلية وهو يتعرض لذبذبات وضغوط الشركات النفطية والضرائب التي تفرضها الدول على المستهلكين (ضريبة الكربون مثلا) وغيرها من أدوات تتعامل معها مراكز ضغط (لوبيات) تتحرك سرا في إدارات الحكومات والأجهزة الرسمية في أوروبا وأميركا.
ارتفاع أسعار هذه السلعة الاستراتيجية التي لا غنى عنها في التصنيع والاستهلاك (الكهرباء والوقود) لا تتحمّل مسئوليته الدول المنتجة وحدها؛ لأن الشركات المنتجة (مؤسسات الطاقة) تلعب دورها في تحريك الأسعار باعتبارها الطرف الأكثر استفادة من نمو الحاجة إلى الطاقة. فالنمو يعني اتساع الحاجة إلى التنقيب والاستخراج والنقل والتكرير وإعادة التوزيع والتصدير. وكل هذه المحطات التي تتحكم في لعبة الإنتاج تحتكرها شركات النفط الأميركية والبريطانية والفرنسية وغيرها.
لعبة الإنتاج معقدة؛ لأنها تتجاوز حدود قدرات دول «أوبك». فالدول المنتجة لا تستطيع مواصلة عملية الإنتاج من دون مساعدة شركات النفط وإشرافها التقني والتصنيعي والبحثي في إدارة السوق وتحقيق ذاك التوازن المطلوب بين الطلب على الإنتاج والاستهلاك.
مسئوليات مشتركة
هذا الجانب الخفي تتجنب الدول الكبرى الإشارة إليه حين تتهم دول «أوبك» بالوقوف وراء لعبة رفع الأسعار. الجانب الآخر الذي تتهرب الدول الكبرى من مواجهته اقتصاديا يتعلق بالتضخم العالمي وارتفاع أسعار المنتوجات المصدرة إلى الدول المستهلكة؛ ما يؤدي إلى تآكل الفائض النقدي وتعطيل الأطراف المنتجة عن الاستثمار في حقول التنمية.
هذه العوامل الاقتصادية تتهرب الدول الصناعية الكبرى في الإجابة عن أسئلتها وتركز فقط على الدوافع السياسية وتتهم «أوبك» بأنها هي التي ترفع أسعار النفط عمدا بينما المسألة كلها أو في معظمها اقتصادية وتتصل مباشرة بتوازن السوق ودور شركات النفط الاحتكارية في إدارة اللعبة من وراء الكواليس.
الجانب السياسي لا يمكن استبعاده ولكنه يلعب ذاك الدور الثانوي قياسا بحركة السوق ونمو الطلب الدولي على هذه السلعة الاستراتيجية. في العام 1973 كان سعر برميل النفط أقل من ثمن «ساندويتش» في فندق أوروبي من الدرجة الأولى. وحين وقعت حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 قررت دول «أوبك» رفع الأسعار وقطع إمدادات النفط للضغط على الولايات المتحدة لتلعب دورها السياسي في تأمين شروط السلام العادل.
بعد تلك الحرب لم يُسْتَخدم النفط وسيلة للضغط السياسي. ولكن الطاقة سلعة استراتيجية ولأنها كذلك كانت تتأثر دائما بالسياسة الدولية والتوترات الأمنية. فخلال فترة انطلاق الثورة الإسلامية في إيران تحركت أسعار النفط وارتفعت. كذلك عادت للارتفاع بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان. ثم قفزت بعد اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية إذ وصل سعره في العام 1980 إلى 28 دولارا للبرميل واعتبر الأعلى آنذاك.
بعد فترة على الحرب استقر سعر البرميل وأخذ يتراجع إلى ما كان عليه؛ ما دفع نائب الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الأب إلى زيارة المنطقة والطلب من دول «أوبك» المحافظة على سعر النفط حتى لا تتأثر عمليات التنقيب وتتهرب شركات الإنتاج والتكرير والنقل من الاستثمار في حقل النفط.
زيارة بوش الأب حصلت في عهد رونالد ريغان وهي تؤكد وجود مصلحة أميركية في المحافظة على سعر مرتفع نسبيا حتى يكون مقبولا للشركات وتتشجع على الإنفاق على التنقيب وتطوير حقول الإنتاج. السعر الذي اقترحه بوش الأب في العام 1985 كان 19 دولارا للبرميل؛ لأنه يضمن مصالح الدول المنتجة والمستهلكة ويشجع شركات النفط على استمرار عملها في هذا الحقل.
المسألة إذا معقدة وتتجاوز السياسة وتطاول أكثر من طرف. فأصحاب المصلحة والقوى المستفيدة من نمو أسعار النفط تتمثل في مشهدها العام أكثر من جهة وتعتبر الدول المنتجة الأقل استفادة إذا تمت قراءة العملية من كل جوانبها. سعر النفط وصل الآن إلى حدود مئة دولار للبرميل. وهذا السعر لا يعادل 28 دولارا في العام 1980 إذا احتُسِبت أرباح الشركات والضرائب المفروضة على المستهلكين. فالتضخم الذي اكتسح الأسواق العالمية منذ 27 سنة استوعب المردود النقدي الذي حققته الدول المنتجة على رغم أن أسعار النفط شهدت تذبذبات خلال أزمة الكويت في 1990 - 1991.
تذبذب الأسعار ثم استقرارها ثم ارتفاعها أو تراجعها كلها مؤشرات تدل على وجود أكثر من قطاع يساهم في إدارة اللعبة. والفوائد المتوقعة من نمو الاحتياط النقدي للدول المنتجة تذهب في نسبتها العليا إلى الدول الصناعية الكبرى التي تعتبر المستفيد الأول من تحسن القدرة الشرائية أو الاستهلاكية لمنظمة «أوبك». فاقتصاد السوق دائما يحتاج إلى هزات عالمية لتحريكه وتنشيطه حتى لا يسقط في دائرة الركود وتتجمد فاعليته التي تتطلب دائما الحوافز للابتكار والتطوير. والنفط في هذا السياق يعتبر سلعة مهمة في تحريك اقتصاد السوق باتجاه المزيد من النمو والتوسع. والهزات التي تنجم أحيانا عن دول «أوبك» ليست من افتعالها وهي دائما من صنع الدول الصناعية الكبرى التي تتحمّل مسئولية مباشرة في ترتيب الأزمات واختلاق المشكلات وقيادة الحروب وزرع الفوضى وتوتير الأمن. ومجموع تلك السياسات ساهمت في رفع أسعار النفط ودفعها إلى مئة دولار خلال فترة زمنية قياسية بدأت منذ وصول جورج بوش الابن إلى الرئاسة الأميركية في العام 2001.
ارتفاع الأسعار جاء خلال السنوات الست الماضية ليلبي حاجات شركات النفط التي تحتكر قطاعات التنقيب والاستخراج والنقل والتكرير وإعادة التصدير. فالارتفاع عوض الخسائر الناجمة عن التضخم بين 1980 و2007. كذلك أحدث هزة نقدية يحتاج إليها اقتصاد السوق الذي يتطلب نموه وفرة مالية؛ للمحافظة على استمرار الفورة الاقتصادية. وهذه الفورة لم تعد تقتصر على دول الغرب بعد أن دخلت الصين والهند وروسيا على خط التنافس في التنمية والتطوير والتحديث. وبروز دول الشرق على خط التقدم الاقتصادي ساهم في تعديل توازن القوة وأعطى النفط مجاله الحيوي بصفته سلعة استراتيجية في السوق العالمية.
بيان «أوبك» الختامي في قمة الرياض كان شديد الدقة في اعتداله وتعامله الموضوعي مع سياسة السوق وعدم التفريط بالدور التدخلي للدول المنتجة وقدرتها المحدودة في المحافظة على التوازن بين نمو الطلب وارتفاع الأسعار في وقتٍ يشهد الدولار سلسلة تراجعات في قيمته الشرائية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1901 - الإثنين 19 نوفمبر 2007م الموافق 09 ذي القعدة 1428هـ