العدد 1900 - الأحد 18 نوفمبر 2007م الموافق 08 ذي القعدة 1428هـ

النمو الاقتصادي بصفته انحسارا معيشيا!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

ربما قد لا يكون كافيا أو مجديا في لحظتنا الراهنة أو حتى قبل عقود من الزمن أن يلجأ المسئولون وبعض حكومات دول العالم أو الصحافة الرسمية أو الأبواق الصحافية المستأجرة رسميا إلى السعي لامتصاص النقمة الشعبية السائدة، وتطويق الخطابات السياسية المعارضة للخطابات الرسمية العامة من خلال استغلال أرقام وفواصل الحسابات الفلكية والمؤشرات الاقتصادية القياسية بشأن تحقيق وإنجاز نمو اقتصادي وازدهار ورخاء واستقرار غير مسبوق، فمثل هذا النمو والازدهار والرخاء والانتعاش وغيرها من مسميات منفرطة في طمأنينتها قد تكون مسئولة وضالعة رئيسيا في تهديد الاستقرار العام للدولة وتغذية النفور والنفير الشعبي في المجتمع أكثر من كونها مساهمة في تطمينه وترخيته ذهنيا وتعقيره سياسيا!

فقد بات في حكم المعروف والملاحظ أن مثل هذا النمو والازدهار الرأسمالي المتضخم كظاهرة عالمية تكون له في معظم الحالات والتجارب الملموسة توابعه الميكانيكية المؤدية إلى حدوث استقطاب شاسع ومتزايد بين أقلية ثرية تزداد ثراء وبذخا فاحشا، وغالبية عظمى تطرد مظاهر عوزها وانحسارها المعيشي مع تآكل وتفتت الطبقة الوسطى التي عادة ما تكون ركيزة الاستقرار وصمام الأمان في مرحلة التحولات والتغييرات الجوهرية، وهو ما نشهده حاليا على صعيد محلي من مظاهر لا تغادر الأنظار والذاكرة المستشرفة لمحدودية الخلاص!

ومثل هذا الكلام لا يأتي فذلكة وعلكة أيديولوجية معتقة يلوكها فم اليسار بشتى تلاوينه كما يتذرع بذلك الدعاة (propagandist) النيوليبراليين، ففي ذلك قد كتبت الكثير من البحوث الأكاديمية، وأجريت بشأن تلك الظواهر الكثير من الدراسات المسنودة بشتى المعطيات والحقائق العلمية والقراءات والاستقراءات المعرفية المتراكمة، ومنها مؤلفات المفكر الاقتصادي سمير أمين والمفكر السياسي برهان غليون والباحث الاقتصادي - السياسي الأكاديمي عبدالحي زلوم والباحث جان زيغلر وغيرهم الكثير.

وعن هذه الظاهرة العالمية التي تبدو فيها الغالبية الساحقة من شعوب الأرض في انحسار معيشي كوني ذو أفق يقيني لا نهاية له برزت مجلة «نيوزويك» الأميركية في عددها الصادر بتاريخ 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2007 بتقرير خاص عنونته بـ «أثرياء وفقراء: الهوة بين المداخيل تزداد اتساعا في كل أنحاء العالم، ولاسيما في الصين وأميركا، بسبب السياسات المتبعة»، وشمل هذا التقرير تركيزا على عدة محطات عالمية بارزة مثل الولايات المتحدة الأميركية والصين ودول اقتصادات النمور الآسيوية (هونغ كونغ، تايوان، كوريا الجنوبية وسنغافورة) والبرازيل واليابان، وهي محطات متنوعة ومتفاوتة في ازدهارها ونموها وصعودها الاقتصادي حسب المؤشرات المرصودة عالميا كالصين القوة الكبرى النامية في العالم أو اليابان التي تعد إحدى أغنى بلدان العالم، إلا أن جميع البقاع المزدهرة والمتلألئة تلك تميزت بشيوع واستقواء ظاهرة واحدة يتضافر من خلالها النمو والرخاء الاقتصادي يدا بيد مع الانحسار والانحدار المعيشي لغالبية شعبية كاسحة، فتنعدم المساواة وتزداد الفروقات حدة!

فقد ذكر التقرير بأنه وفي الصين مثلا تزايدت الهوة بين الفقراء والأغنياء بشكل مماثل لأوضاع دول أميركا اللاتينية وفقا لدراسة بنك التنمية الآسيوي المنشورة في أغسطس/ آب، كما أن هونغ كونغ التي لطالما تباهت بناتج محلي إجمالي يبلغ 27000 دولار للفرد الواحد ونمو اقتصادي يقدر بـ 8 في المئة سنويا فإنها وفي الوقت ذاته تشهد تضاعفا خطيرا لعدد الفقراء العاملين خلال 10 سنوات، بالإضافة إلى الأوضاع المتدنية للضمان الاجتماعي الأمر الذي يجعل كل واحد من ثلاثة مسنين في هذه المدينة يعاني من الفقر بحسب الإحصاءات الرسمية!

وأشار إلى أن مثل تلك الإحصاءات دفعت أستاذ العمل الاجتماعي في الجامعة الصينية ونغ هونغ إلى القول: «في السابق تحول أبناء الطبقة الشعبية إلى أصحاب مشروعات أو أرباب عمل في المصانع، فقد كانوا يتحلون بالأمل. أما اليوم فقد بات من المستحيل أن يتسلق أبناء الطبقة العاملة السلم الاجتماعي كي يصبحوا من الطبقة الوسطى»!

وبحسب التقرير فإن المشهد العالمي يسفر عن هيمنة أقطاب قطاعات الموارد الطبيعية المعينين من قبل الحكومات على قوائم أصحاب الملايين مستغلين في ذلك المزايا المتحققة لهم من الأنظمة الضريبية الأقل تصاعدية والخصخصة والتجارة الحرة وغياب الحماية عن حقوق العمال، وفي حين تزداد الهوة بحدة في الولايات المتحدة والصين وروسيا فإنها أقل زيادة في الهند بسبب سياساتها التجارية الحمائية وفي ألمانيا بفضل الإعانات الاجتماعية.

ويشير التقرير إلى كون الشعوب هي الضحية الكبرى للصفقات الفاسدة بين الحكومات والأثرياء ذوي معارف كثيرة في جني أرباح طائلة كما حصل في خصخصة قطاع الموارد الطبيعية في روسيا، وفي المكسيك إذ تمكن رجل الأعمال وأحد أثرى الرجال في العالم وهو المكسيكي كارلوس سليم من جني ثروته بفضل الحماية الحكومية التي وفرت لشركته للاتصالات (تيليميكس)، والأمر أسوأ لدى الدول التي كانت في السابق ضمن معاقل الاشتراكية تحت زعامة الأحزاب العمالية والتي شبهها التقرير بأنها أصبحت مثل أميركا في نهاية القرن التاسع عشر بسبب عدم وجود النقابات العمالية القوية وتضاؤل قوانين سلامة العمال وعدم وجود قوانين للحد الأدنى للأجور، ويستشهد في ذلك بالهند التي لا ينتمي نحو 86 في المئة من قواها العاملة إلى نقابات!

ويستشهد التقرير بقول الخبير الاقتصادي والكاتب في صحيفة «نيويورك تايمز» بول كروغمان بشأن هذه الظاهرة العالمية التاريخية وهو: «نحن في العصر الذهبي الثاني. التفاوت في المداخيل قبل الضرائب والتحويلات العام 2005 كان نفسه في عشرينات القرن الماضي. والسلوك ما زال نفسه: المؤسسات الخيرية الخاصة العملاقة، وهي أحد العوامل المخففة، وأصحاب الثراء الفاحش، وطبعا الذين يستعملون ثراءهم لأغراض شريرة يصرون جميعا على أنهم يقومون بأمور عظيمة لأجلنا».

بالإضافة إلى شهادة الرئيس السابق للاحتياطي الفيدرالي الأميركي آلان غرينسبان بشأن النظام التجاري الدولي حينما قال: «مسألة العدالة المزعومة في توزيع المكافآت المتأتية من الرأسمالية أثارت قلقا لدى كل الأشخاص المرتبطين باقتصادات السوق الحرة. لهذا السبب لم يتم الاعتراف بحسنات الرأسمالية بعد، على رغم من هذه المكاسب المدهشة».

وينتقل التقرير إلى سنغافورة التي تتميز بنوعين لا ثالث لهما من العقارات وهما المنازل الفخمة والإسكان العام الذي توفره وتديره الدولة، ويصف «المجتمعات المسيجة» الساحرة التي يقطنها الأثرياء ورجال الأعمال الأجانب وما يتمتعون به من أفضل الخدمات التعليمية والصحية.

ويشير إلى شهادة وزير التنمية الوطنية في سنغافورة محبو تان «إن الإسكان العام في سنغافورة ليس لمنخفضي الدخل فقط. إنه لمتوسطي الدخل، وحتى لذوي الدخل المتوسط الأعلى»، وقد اضطرت الحكومة السنغافورية جراء تردي الوضع المعيشي الإسكاني إلى الاستجابة للتضخم الكبير الحاصل في أسعار المنازل من خلال رفع قيمة المنحة الأعلى المقدمة لمشتري المنازل للمرة الأولى بنسبة 50 في المئة وخفض معايير التأهل للحصول على هذه المنح من قبل الأسر ذات الدخل المتدني، وذلك على عكس من خططها السابقة!

أما بخصوص البرازيل صاحبة الاقتصاد الأكبر في أميركا الجنوبية فيشير التقرير إلى لقب «بلينديا» الذي كان يطلق عليها لكون المجتمع البرازيلي منقسم إلى قسمين غير متساويين هما «بلجيكا صغيرة ومزدهرة تحيط بها الهند الواسعة والمعدمة»!

ويشيد التقرير بالجهود الحكومية البرازيلية المثمرة والفريدة من نوعها عالميا لتضييق الهوة العميقة بين الأغنياء والفقراء، حيث شهدت هذه الجهود تحولا جوهريا من الاعتماد على حلول بيروقراطية وبرامج اجتماعية للتخفيف من الفقر تكلف الحكومة أكثر من 500 مليار دولار وهو ما يعادل نصف الناتج المحلي الإجمالي من دون أن يستفيد منها الفقراء فعليا في نهاية المطاف، وانتقلت إلى أسلوب التحويلات النقدية المباشرة للفقراء (بولسا فاميليا) وهو ما أفاد ربع سكان البرازيل عبر إنفاق 1 في المئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي حسب قول أحد الاقتصاديين البرازيليين!

أما فيما يتعلق باليابان فيستدل التقرير بظاهرة فريدة تتمثل في ازدياد الطلب على السيارات الفخمة الغالية مع طلبات السيارات الرخيصة في الوقت نفسه، وهو ما ينبه إلى الهوة المتنامية بين الأثرياء والفقراء في اليابان بحسب إشارة الخبير في قطاع السيارات الياباني كوجي إندو.

ويذكر التقرير أن ذلك الواقع المؤلم أدى إلى إسقاط الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم منذ خمسين عاما بسبب فشله في وضع حل لظاهرة التفاوت الحاد بين المداخيل، فالطفرة الاقتصادية الرأسمالية الحادة أضرت كثيرا بقيم المساواة المتجذرة في التراث الثقافي والروحي للشعب الياباني.

وفي اعتقادي الخاص بأن مجرد استمرار ارتفاع ظاهرة التفاوت الاستقطابية الحادة تلك بين المداخيل ومستويات المعيشة قد بات يهدد ما مثلته الرأسمالية اليابانية بميكانيزماتها الآلية التعاونية من نموذج مؤسسي مثالي ورمزية بديلة تسعى قدر الإمكان لتجسيد قيم التعاون البناء والمساواة الجماعية بين مختلف أبناء الشعب وتجسير الهوات والفجوات الطبقية بينهم على العكس من الرأسمالية الأنجلوساكسونية الغربية المتوحشة!

وجميع ما ذكرناه في مقدمتنا المطولة واستعرضه التقرير الخاص لمجلة «نيوزويك» الأميركية وما نلامسه في أوضاعنا المحلية من امتداد لا ريب فيه لظاهرة عالمية منذرة بالخطر وفقدان الاستقرار الاجتماعي والانحسار المعيشي وإن كانت مكللة ببشارات التفاؤل والرخاء والازدهار، وجميعها تحرض على أن التحدي القادم والأكبر لا يتمثل فقط في صناعة النمو، وإنما سيكون في عقلنته وترشيده وتدجين نقماته وجموحه المنفلت عبر تصريفه وتطبيعه اجتماعيا في أكثر المجالات والقطاعات المجتمعية عمومية، و العمل على إيجاد صيغ وآليات بدائلية لتوزيع العوائد والثروات بشكل أكثر عدالة وإنصاف يسهم في تقوية القواعد الاجتماعية الكادحة والمعدمة لذروة منكمشة ومتألقة من البذخ قد تفقد توازنها ذات يوم إذا ما انهدم البنيان الهيكلي المتآكل الفقرات والمفاصل والأضلاع!

ومجرد خوض هذا التحدي الكبير في خلق الضامن السياسي الاجتماعي لحماية الغالبية الفقيرة والطبقة الوسطى المتفتتة قد ينعشنا كمواطنين بحلم صعود رأسمالي تقديري، وربما يجنبنا عودة أخرى إلى مرحلة الإقطاع ، الذي تبرز أنصبة محدداته بتوافر الأرستقراطيين التقليديين والنبلاء والإكليروس «رجال الدين المترسملين» من الطائفتين على رغم كوننا في طور القرن الواحد والعشرين!

ونرجو أن لا تكون تلك الحلول رهينة لزيادة مذلة ومخزية لكرامة المواطن، أو أن تكون من صنف الحلول البيروقراطية الاجتماعية المؤداة عبر أداة الـ «ون مان شوو»!

هذه الحلول لن تكون إلا بقرار سياسي محنك وحكيم ذو أبعاد اجتماعية عريضة شاملة، وحتى يأتي أوان ذلك القرار لا تحرموا الناس من حلب واستحلاب « تيس» السياسة و»التسييس» طالما أنكم لم توجهوا لهم دعوة مودة ورحمة إلى مشاركتكم في مائدة الاقتصاد العامرة والشهية!

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 1900 - الأحد 18 نوفمبر 2007م الموافق 08 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً