تساءلت من موقعي في نهاية الصف، كم من الوقت أحتاج للحصول على بطاقة ركوب الطائرة. كان مبنى المطار يعج بأعداد كبيرة من الناس. كان البعض منهم متجها إلى مكة المكرمة لأداء مناسك العمرة في بداية شهر رمضان المبارك، الذي يصوم فيه المسلمون من قبل شروق الشمس وحتى غروبها. كان آخرون يلبسون الثياب القصيرة يستعدون للذهاب إلى بيوتهم في أوروبا بعد إجازة قضوها في الشمس قرب الأهرامات.
عندما توقف تقدم الصف لدقائق قليلة، تحركت جانبا لألقي نظرة سريعة على سبب توقف التقدم، فرأيت مجموعة من الرجال يلبسون القفاطين وأغطية الرأس، يواجهون صعوبة في تسليم حقائب سفرهم. تساءلت إلى أين يتجهون.
بعد مرور ساعة، وأثناء صعودي إلى الطائرة المتوجهة إلى أوروبا شاهدت مجموعة الرجال تتخذ مقاعدها في خلفية الطائرة. لملمت شجاعتي، بعد أن تغلب حب الاستطلاع على حياتي من التدخل في خصوصياتهم وسألت من بدا أكبرهم سنا عن هدف رحلتهم. ابتسم لي ابتسامة كبيرة بدت وكأنها تعني «لماذا أنتِ مستغربة لذهابنا إلى أوروبا؟».
كان هؤلاء الرجال علماء دين مسلمين من طنطا في مصر (شمال القاهرة) وكانوا في زيارة رسمية تستمر شهرا لدولة أوروبية معروفة بصناعة الشوكولا والجبنة والنبيذ. أنيطت بهم أثناء وجودهم هناك مهمة «إحياء شهر رمضان الفضيل»، وهو تعبير عربي يستخدم لتفسير المشاركة في صلوات متنوعة أثناء الشهر الفضيل في الإسلام.
لدى وصولنا كانت الدولة تعدّ لانتخاباتها البرلمانية المقبلة، وأثناء رحلة التاكسي إلى الفندق الذي أقيم به لفتت نظري واحدة من لوحات الإعلانات الكثيرة المتناثرة في أرجاء المدينة تروج للأحزاب السياسية المختلفة.
برزت إحدى هذه اللوحات بشكل ملفت للنظر. كان أحد الأحزاب السياسية قد وضع تلك اللوحة، وتظهر مجموعة من الخراف تقف على علم الدولة. كانوا ثلاثة خراف بيضاء تركل خروفا أسود اللون إلى خارج المجموعة، وإلى خارج العلم، والواضح أن ذلك يعني، ولو مجازيا، إلى خارج الدولة. تحت الصورة كان هناك نص من الحزب يقول: لأمن أفضل... بيتنا... دولتنا.
أصابتني الصدمة، كما أصابت الكثير من أصدقائنا الأجانب والمحليين على حد سواء. ولكنني اكتشفت أن الحزب المسئول عن اللوحة سيئة الذكر وصورة الخراف قد فاز بخمسة وعشرين في المئة من مقاعد البرلمان في الانتخابات السابقة.
يستطيع المرء أن يناقش أن «الخراف السوداء» تعبير يصف أي شيء غريب أو مختلف، ولا يحمل بالضرورة معان ضمنية عرقية. كان ذلك، على الأقل، المنطق الذي استخدمه الحزب عندما ووجه باتهامات رهاب الأجانب من قبل الإعلام وجمعيات معينة مضادة للعنصرية.
أثناء إقامتي التي استمرت أسبوعا واحدا سمعت الكثير من النقاشات بشأن تلك اللوحة والقيم التي روّجت لها. كان البعض مساندا لها بينما عارضها البعض الآخر.
ما يثير الانتعاش، على الأقل، هو أن الدولة تسمح بحوار كهذا. تعبير الناس عن توجهاتهم السياسية بهذا الأسلوب المفتوح يثير غيرتي وحسدي الشديدين كعربية. يستطيع المرء، في مكان تثمّن فيه الآراء، أن يدافع عن معتقداته السياسية وأن يجد أحزابا تمثله أو تمثلها. يستطيع حتى الخروف الأسود أن يجد موقعا تحت الشمس.
يُنظر إلى العرب أحيانا على أنهم مسيّسون إلى درجة بعيدة. إلا أنه في الواقع نادرا ما يشعر معظمنا بأنهم ممثلون في أنظمتنا السياسية. يشعر الكثير منا بحماسة شديدة حيال النزاع العربي الإسرائيلي، أو نعتقد أن لدينا فكرة واضحة عن كيفية حل الأمور في العراق. إلا أننا غير قادرين على توجيه هذه المشاعر من خلال أحزابنا السياسية. لذلك وبعكس الأنظمة الديمقراطية، لا يُساهم وعينا السياسي ومشاعرنا في صنع السياسة أو حتى التأثير على السياسة في الكثير من دولنا.
ولكن في هذه الدولة الأوروبية، يجاهر الناس بسياستهم - على الأقل السياسة الداخلية - عندما يشاركون من خلال التصويت الرسمي في صنع سياسة بلدهم، وهو أمر لا يشعر الكثير من العرب أن بإمكانهم القيام به. لذلك، وبينما تقترح الاستطلاعات الوطنية أن نصف سكان هذه الدولة سيصوتون للحزب الذي وضع تلك اللافتة، رحبت تلك الدولة في الوقت نفسه رسميا بمجموعة من علماء المسلمين لتشجيع سكانها على المشاركة في الشعائر الدينية. لا يعني مجرد وجود حزب سياسي في الدولة يعلق لافتة عدائية أن هناك افتقارا لاحترام التنوع واختلاف الرأي. الدولة لا تفقد غناها في المساحة السياسية إلا عندما لا تسمح للأصوات المعارضة بالظهور. فالغنى يأتي مع التنوع.
من المؤكد أن أحد أسباب القلق هو أن عددا كبيرا من الناس في الدولة ينظرون إلى مجموعة محددة من المواطنين كخراف سود. ولكن أحد مصادر الخطر الأعظم هو عندما تُخنَق قضايا الحوار العام، مثل هذه القضية أو يجرى منعها.
* سورية تقيم في القاهرة وتعمل في مجال القضايا الإنسانية والتنموية ومجال الاتصالات في منظمة دولية، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1900 - الأحد 18 نوفمبر 2007م الموافق 08 ذي القعدة 1428هـ