يقول ابن خلدون: «الإنسان مدني بالطبع، أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معنى العمران. وبيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء، وهداه إلى التماسه بفطرته، وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله. إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء، غير موفية له بمادة حياته منه».
ويضيف «ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلا، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ. وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري. هب أنه يأكله حبا من غير علاج، فهو أيضا يحتاج في تحصيله حبا إلى أعمال أخرى أكثر من هذه، من الزراعة والحصاد والدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنبل (...) ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير. ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد. فلا بد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم، فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف. وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضا في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه».
تتمثل حال الكمال الإنساني وفق الرؤية الخلدونية عبر تحقيق تلك الصورة المدنية من التشارك الإجتماعي، هذا التشارك الإجتماعي لا يظهر لدى بن خلدون معقدا، بل لعله يمعن في تبسيطه في أجزاء مقدمته الرائعة، انه مختزل في تصالح «العصبيات»، حين تدرك كل عصبية أن بقاءها مرهون بالتشارك مع باقي العصبيات الأخرى في الدولة.
يرفض ابن خلدون في مقدمته إطلاق القدرة على «المفرد»، والفرد هو «الإنسان»، «الطائفة»، أو «القبيلة»، وعليه، يشير ابن خلدون في أكثر من مقام إلى ضرورة أن تدرك هذا الواحدية الطارئة أن حظوظ نجاحها واستئثارها بالحياة «مستحيل»، وأن قيمة التشارك والتصالح مع باقي أجزاء النظام الإجتماعي ضرورة بقاء لا تحمل في طياتها دعابة «طوباوية» أو دعوى «كمالية».
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1896 - الأربعاء 14 نوفمبر 2007م الموافق 04 ذي القعدة 1428هـ