على هذه الخلفية ينبغي أن تنطلق غرفة التجارة والصناعة كي تمارس دورها السياسي، على أن تمهد لذلك بخطوتين أساسيتين ومتوازيتين: الأولى أن تتخذ الغرفة قرارا إستراتيجيّا صريحا وواضحا بشأن رغبتها في أن يكون لها الدَّور السياسي الذي يليق بها، والذي لا تتمتع به اليوم، والثانية أن تشخص الأسباب الذاتية والموضوعية التي أوصلت الغرفة إلى المكان الذي هي فيه اليوم وسبل انتشال نفسها منه.
وإذا ما توقفنا عند أهم الأسباب الكامنة وراء ذلك، سنكتشف أنها كثيرة ومتعددة، بعضها موضوعي ولَّدته ظروف خارجة عن إرادة الغرفة، والأخرى ذاتية كان للغرفة دور فيها، وبوسعنا أن نرصد في هذا الحيز المتاح، أهمها:
على المستوى الموضوعي، من أهم الأسباب التي قادت إلى ذلك هو التحول في قنوات توليد الدخل العام للدولة والمصدر المالي الأساسي الذي يمول مشروعاتها، فبعد أن كانت الرسوم الجمركية، في مطلع القرن الماضي، التي يدفعها تجار البحرين، على رغم ضآلتها، تشكل ما يزيد على 90 في المئة من ذلك المدخول، أصبح النفط بعد اكتشافه في الثلاثينات، المزود الرئيسي لما تحتاج إليه الدولة من سيولة نقدية. أدى ذلك التحول الدراميتيكي إلى تنامي نفوذ الدولة السياسي، المتكئ على الوسادة المالية النفطية من جهة، وتراجع نسبة إسهام تجار البحرين في موازنة الدولة، ومن ثم ثقلهم في التأثير على اتجاه قراراتها السياسية من جهة ثانية.
ثاني تلك الأسباب تحول الدولة من مجرد مؤسسة سياسية تنفيذية تتلقى دعمها المالي من خارج مؤسساتها وممتلكاتها، إلى مالك رئيسي في السوق من خلال الاستثمارات التي تملكها، الأمر الذي نقلها من موقع المتلقي، إلى مقعد المتنافس الذي يملك الحصة الأكبر من الكعكة.
ثالث تلك الأسباب، تحكم الدولة، ولمراحل طويلة امتدت إلى أكثر من أربعة عقود غابت عنها الشفافية إلى درجة عالية، في إرساء المناقصات، وخاصة الضخمة منها، على من تختاره هي من التجار، بدلا من هو أكثرهم كفاءة وأهلية. أدى ذلك بشكل تلقائي إلى قلب موازين المعادلة، فتحولت الدولة من متلق إلى ممول، والعكس صحيح، إذ انتقل التاجر من مقاعد الممولين إلى طرقات المستجديين.
أما على المستوى الذاتي، فهناك سبب أساسي يكمن وراء تراجع المكانة التي تستحق الغرفة حيازتها في ساحة العمل السياسي البحريني، وهو قرار التاجر البحريني، بوعي أو من دون وعي، الابتعاد عن العمل السياسي، ووضعه، حتى في أبسط أشكاله، في خانة «التمرد غير المنطقي»، أو التجاوز، غير المبرر، لما تسمح به القوانين المعمول بها بغض النظر عن شرعية تلك القوانين أو حتى عدالتها.
بعد ذلك، وانطلاقا من فرضية تقول برغبة الغرفة اليوم في ممارسة دور سياسي ريادي فهي مطالبة بأن تبدأ، ومن دون أي تردد أو تأجيل، اتخاذ مجموعة جريئة من القرارات والخطوات من بين أهمها:
1 - الإستراتيجية الصحيحة: فالغرفة اليوم مطالبة بالانتقال من الاكتفاء بردود الفعل الانفعالية الآنية القصيرة المدى، إلى تبني إستراتيجية شاملة بعيدة المدى، تخاطب المواطن بشكل عام، لكنها تلبي احتياجات القطاع التجاري على وجه خاص. هذه الإستراتيجية تكون هي الرد الإيجابي البناء على خطط الدولة ومشاريعها. نجاح تلك الإستراتيجية رهن بشموليتها وواقعيتها، وابتعادها عن ردود الفعل الآنية، مثل حصرها، على رغم أهمية ذلك، في خانة سياسية ضيقة أو هدف سياسي أضيق، مثل المشاركة في البرلمان.
2 - البرنامج الكفء: تفقد تلك الإستراتيجية فعاليتها وأهميتها، بل وحتى جدواها، ما لم تترجم إلى برنامج عمل يومي ديناميكي وتفاعلي مع الجمهور الذي تخاطبه تلك الإستراتيجية. هذا البرنامج اليومي هو وحده القادر على انتشال الإستراتيجية من أذهان الفريق الذي صممها إلى المواطن الذي ينتظرها، ويترقب اليوم الذي ينخرط في تنفيذها ويشارك في انتشارها إلى أوسع قطاع ممكن.
3 - تشييد البنية التحتية المتينة: باستثناء الغرفة، تمتلك القوى السياسية الأخرى، وبشكل متفاوت يتناسب طرديّا مع إمكاناتها المالية وسعة دائرتها الجماهيرية، بنية تحتية سياسية قوية وفعالة. هذه البنية تتراوح بين تلك التقليدية مثل مراكز التجمعات ووسائل المواصلات، أو حديثة مثل أوعية المعلومات، أو معاصرة مثل التشبيك الإلكتروني والمنصات الإلكترونية.
4 - قنوات الاتصال والتواصل: هذه البنية التحتية بأنماطها الثلاثة، تتحول إلى هياكل إستاتيكية غير مجدية، ما لم تنفخ فيها الحياة مواد وفعاليات تمد تلك القنوات بالوقود والطاقة اللذين يحولانها إلى كائن حي ديناميكي يفتح أمام الغرفة مجالات رحبة من الاتصال والتواصل مع أوسع قطاعات المجتمع حيوية وتأثيرا في مسار الحياة السياسية البحرينية. فالمراكز بحاجة إلى المحاضرات وورش عمل، ووسائل المواصلات تنتظر من يملؤها ويستخدمها، والمنصات الإلكترونية تتطلع إلى المواد الملائمة التي تبثها والخدمات المولدة للقيمة السياسية المضافة التي يحتاج إليها الجمهور المتعطش لها.
تلك كانت خطوط عامة أملتها رغبة شديدة في رؤية التاجر البحريني مغادرا الهامش السياسي الضيق والمحدود الذي أفرزته تلك العوامل بشقيها الذاتي والموضوعي، وهي، بطبيعة الحال، بحاجة إلى المزيد من التمحيص والإغناء إن أرادت الغرفة أن يكون لها الدور الذي تطمح هي، ويشاركها أعضاؤها ذلك الطموح، إلى أن تمارسه
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2276 - الجمعة 28 نوفمبر 2008م الموافق 29 ذي القعدة 1429هـ