لم أزر العاصمة (المنامة) منذ أكثر من ثلاث سنوات، ومازلت «أستثقل» زيارتها حتى المرور بها مرور الكرام، ومازلت أؤثر ابتياع أي غرض من خارج حدودها حتى لو بثمن أعلى، أو التنازل عنه نهائيا، على أن أعرّج على أزقتها وأتوه في دهاليزها، ليس لكثرتها وعدم انتظامها، وإنما لإحساس الغربة الذي ينتابني كلما نظرت إلى الوجوه أو سمعت اللكنات، عوضا عن شم الروائح التي ما كانت لتكون من رائحة بلادي ولا أهلها، غير الصعوبة التي أواجهها - وخصوصا وكوني فتاة - وأنا أحاول تلافي «البصقات» التي تزين الشارع.
لا أخفيكم علما، أن إحساس الغربة ذاك بدأ يتسلل إليّ نحو مسقط رأسي، ومقر أهلي وذويي (جدحفص) الغالية، التي ما اعتدت أن أراها بلباس المنامة الذي كرهت. جدحفص التي لم تخالط لكنتها الأصلية لكنة غريبة إلا من قلة قليلة تعد على الأصابع، لم يكن لها ثقل ولا أثر واضح يطغي على معالم المدينة الأصلية. جدحفص التي كنا نتنقل بين «دواعيسها» كبارا وصغارا بكل أريحية، والخوف لم يخالجنا أبدا لا على أنفسنا ولا على أطفالنا ولا على ممتلكاتنا وحرماتنا.
اليوم، جدحفص «غير»... من هواها، إلى سوقها الشهيرة، إلى أناسها ونغمات ألسنتهم، إلى شوارعها ونظافتها، وليس آخرا الطمأنينة والوداعة التي سقطت من ميزاتها بعد أن اجتاحها الغرباء، لتأتي محاولة خطف طفولتها صفعة قوية أدخلتنا في غيبوبة من الذهول والدهشة... ماذا غيّرها؟
نعلم أن ليست جدحفص وحدها التي بدأت ملامحها بالتبدل، بل هناك الكثير من القرى والمدن غزاها الغرباء وبدأوا يزاحمون أهلها في كل الخدمات التي تفتقدها أكثرها أصلا، فضلا عن الأمان الذي ما عاد موجودا، وما ينقل ويتداول كل يوم من حوادث شاهد أكيد على تردي الحال.
على ذلك كله، نحن لا ندعو إلى تهجير العمالة الآسيوية (باعتبارها نجحت فعلا في «هنودة» بعض المناطق) وترحيلها عن مملكتنا؛ لكوننا أعلم أننا في أمس الحاجة إليهم لشغل وظائف «دنيا» ما من بحريني يستطيع تحمّل ظروفها أو يقبل بمدخولها الضئيل مقارنة بكم ونوعية العمل والغلاء المعيشي للبحريني، ففي الوقت الذي يستطيع الآسيوي أن يملك أراضي ومن الممكن أن يصبح تاجرا في دياره بعد كم سنة (كدح وتحمّل أقسى الأوضاع الإنسانية والعملية في البحرين)، لا يمكن للبحريني (المدلل يا زعم في أرضه ويتقاضى راتبا مضاعفا عن راتب نظيره الآسيوي) أن يوفر حتى ما يسد رمقه إلى آخر الشهر!
جل ما نطالب به - بإلحاح - بألا تطمس هويتنا البحرينية وتسقط على أيدي الغرباء، بعاداتها وتقاليدها وأناسها ولكنتها، وسمتها الأساسية المتمثلة في الأمن والأمان، وخصوصا أن على ما يبدو (والساتر الله) هناك غزاة جددا في طريقهم إلى «عربنة» مناطق أخرى. شيء من التنظيم والتقنين لا أكثر. وتذكروا «أصحاب الأرض أولى بخيراتها».
إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"العدد 1894 - الإثنين 12 نوفمبر 2007م الموافق 02 ذي القعدة 1428هـ