أسَرَّ لي أحد الأصدقاء بطرفة مُسْتَجْنَحَة في أصلها إليه، بأنه «ومثلما يبقى الرئيس نبيه برّي المتفائل الوحيد بحل أزمة الاستحقاق الرئاسي؛ تبقى أنت المتفائل الوحيد بعدم وقوع الحرب بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية الإيرانية». حسنا... في مثل هذا الإشكال الخطير فلستُ في وارد أن غالبية الديماغوجيا على تصريعات السياسية؛ أو أن أتلقّف «بتسليم» ما قاله الرئيس أحمدي نجاد قبل أسبوعين بأن «الأعداء يرسمون خريطة إيران على الجدار ويقذفونها بالسهام ثم يقولون إنهم سيهاجمون إيران « لكنني أقرأ معطيات مُحددة أرفعها حينا وأخفضها حينا آخر، وأربط أصلها بفرعها وأنفض عنها غبارا ليظهر من غَوْرِ الجَوْن ما يُمكن البناء عليه. الأكيد أن الأجواء التي تَسكُن المنطقة والعالم هي أجواء توتّر، لكنه توترٌ غير مستحكم، فضلا عن مدّه بأجواء حرب بدأ حاديها بضرب الدّف وعزف الصَّنْج، فهذا عليه كثير. ومن يُسوّق هذه الأيام إلى أن ما نعيشه اليوم من توتر لا يختلف عن أجواء المنطقة قبل غزو العراق فأظنّ أن ذلك تعثّر منه غير مُبرّر، فمن له ذاكرة تتحمل التاريخ فعليه أن يستعيد الوقائع والحوادث بدقّة، وإن كانت مكتوبة على الورق؛ لذا فإنني وبعد أن رجعت إلى الإرشيف المعلوماتي للوقوف على الأجواء التي سبقت الحرب الأميركية البريطانية على العراق مارس/ آذار من العام 2003 وجدت أن المانشيتات الصحافية والتصريحات العلنية لكبار المسئولين في الدول العظمى لتلك الفترة لم تكن تُبشّر إلاّ بحرب حقيقية قادمة؛ إذ كان الحديث حينها عن إعطاء واشنطن ولندن ومدريد العراق عشرة أيام تنتهي في السابع عشر من مارس كمهلة أخيرة لنزع أسلحته المزعومة، والولايات المتحدة تُسرّب خطتها لإدارة العراق بمئتي ألف جندي ومستشار في الوزارات العراقية مع خطة لمجلس الرئاسة ما بعد صدام يتكوّن من أربعة عراقيين وللإدارة المدنية ثلاثة أميركيين، وأن مواقع في الكويت وكردستان يُمكن أن تكون بديلة لتركيا (بعد رفض البرلمان التركي استخدام الأراضي التركية لعمليات حربية ضد الأراضي العراقية) وواشنطن تُؤكّد أن صدام حسين لن يبقى في السلطة إذا ما اندلعت الحرب، في الوقت الذي تحدثت فيه بغداد عن مقتل ستة أشخاص في غارة أميركية استهدفت «منشآت مدنية وخدمية « قرب البصرة كتوسيع على ما يبدو لدائرة الأهداف في منطقتي حظر الطيران الشمالية والجنوبية، والبعث يُخلي مواقع حكومية حسّاسة في بغداد، في حين أعلن بنيامين نتنياهو خطة إعلامية ودبلوماسية شاملة حدّد فيها الأهداف الصهيونية في مرحلة ما بعد الحرب الأميركية على العراق وإطاحة الرئيس صدام حسين، مع إعلان مسئول عسكري صهيوني كبير بأن الحرب واقعة لا محالة، وأنها ستنشب في غضون أسبوعين أو ثلاثة، وستكون قصيرة ولكن مرعبة، بينما اقترحت إيران أمس إجراء مصالحة بين الحكومة العراقية والمعارضة وإجراء استفتاء بإشراف الأمم المتحدة لنقل السلطة إلى حكومة جديدة في إطار خطة لتجنب الحرب، بينما موسكو تُعلن أنها لن تستخدم الفيتو ضد أي قرار أميركي بشأن العراق، ومستشارة الرئيس الأميركي لشئون الأمن القومي (آنذاك) كوندوليزا رايس تُعلن بأن الولايات المتحدة مستعدة لشن الحرب حتى لو رفض مجلس الأمن اعتماد قرار ثان يسمح باللجوء إلى القوة. هذه الأجواء التي فرضتها تصريحات ومواقف الدول في أقل من عشرة أيام هي فعلا أجواء لا يُشَمُّ منها سوى قعقعة السلاح، لكن أن ننسخها لنفرض واقعا مماثلا اليوم لإثبات قرب الحرب بين طهران وواشنطن فهو أمر غير دقيق، وإذا كان هناك من حديث اليوم عن صراع أميركي إيراني مُرتقب فإنه لا يزيد عن تمتمات استخباراتية يتمّ الإشارة إليها إعلاميا من باب الحرب النفسية لا أكثر ولا أقل، فلم يَرْشَح عن الدول الكبرى بما فيها الولايات المتحدة الأميركية بأنها طلبت من نجاد التنحّي عن الحكم، أو وضعت سيناريوهات مفضوحة لإدارة إيران ما بعد إسقاط الحكم الإسلامي أو تَمَالأ الجَمْعُ على خيار الحرب حتى مع انسياب السياسة الفرنسية مع الأميركية وضياع الإرث الديغولي، بل إن الحديث لايزال عن سقف العقوبات ومِيدائها طبقا لمصالح الدول، وعن الدعوات المتكررة لطهران بأن تلعب دورا إيجابيا في العراق ولبنان وفلسطين. وهنا يُمكنني طرح عدد من المفارقات التي أجَيرها طوعا لتثبيت خيارات غير الحرب:
(1) بالرجوع إلى تجربتين مُرّتين من العدوان الأميركي على بلدين مُسلمَين وهما أفغانستان والعراق؛ فإن الحديث يظلّ عن نظامين للحكم أحدهما شُيِّد قبل أن يتهاوى بأربع سنين فقط وهو حكم حركة طالبان، وكان نظاما مُتأمّرا على بلاد شائخة أعيتها الحروب والأزمات فلم تعرف يوما اقتصاد سوق أو دورة إنتاج أو نهضة عمرانية أو حتى علاقات دوليّة مستقرة فكان الخشخاش والهيروين وتدمير التماثيل والرجم سمة لها، وعِبَادٍ أسرف أمراء الحرب في استخدامهم تباعا ومنذ عشرين عاما في معارك خرقاء لا تخدم هدفا سياسيا فضلا عن أهداف أدنى منها بكثير فكان إسقاطه أشبه ما يكون بالدراما الكارتونية التي يتحكّم المُخرج في تلابيبها كيفما اتفق، أما العراق فلا أظنّ أن نيّة احتلاله من قِبَل الولايات المتحدة قد تلاشت منذ خيمة صفوان وما تبعها من تأجيل إرادي لخيار الإجهاز، فكانت عملية ثعلب الصحراء في السادس عشر من ديسمبر/كانون الاول من العام 1998 وعمليات التفتيش المهينة والاستفزازية من هانز بلكس إلى سكوت ريتر وحتى ديفيد كاي حرب استنزاف قرّبت مِيْدَاءَ المِدْيَة الأخيرة في وريد العراق الذي حطّمته حروب عبثية ظالمة بعضها من صُنع نظامه المتهاوي والآخر من أشرار العالم المهووسين بالقوة والنفوذ، ولم تكن أحوال العراق في الفترة التي سبقت احتلال هذا البلد لتسرّ أحدا؛ فقد تكبّد العراقيون أبشع أنواع الخسائر المادية والحضرية بفعل حصار خانق طيلة عشر سنين ذاقوا خلالها أنواعا رهيبة من الأمراض الجينية بفعل اليورانيوم المُنضّب الذي تشبّعت به أرضهم، ولم تكن علاقاته الخارجية ومصالحه ونفوذه بقادرة على حمايته من مخاطر الخارج، فجاء التاسع من نيسان ليضع حدا لمأساة مريض باللوكيميا . أما الحديث عن إيران فلا أظنّ أن أحدا بقادر على تحديد بوصلة هذا البلد وتحيين ثباتها، إن طهران ليست جوفا يصفر خواء وضعفا، بل هي نظام استَمْـلأ في سياسته، وأكْثَرَ في استجلاب الشرعية لكيانه طيلة ثمان وعشرين عاما، ولم يستدر يوما لمشكلاته الاقتصادية والاجتماعية بمَذْماج الأحْبَار كما كانت تفعل الأنظمة الشوفينية وحُرّاس السجن الأحمر، وإنما عبر الاحتراب الراديكالي مع مُسبباتها، وتبديل المصدر من كُوّة تَهِيْجُ منها رياح التأزيم؛ إلى قيمة أخرى من قِيَم الدورة الطبيعية للدولة فتكمُل بكمالها وتمرض بمرضها، وحتى عندما أزاح رجال الدين نظاما كِسْرَوِيا مَلِكِيا ربيبا للشيطان وشيّدوا نظاما دينيا تَخَوّل فيه البعض الرجعية والكهنوت البابوي لم يستنكفوا في أن يُبقوا ما يُفيدهم من صالح ذلك النظام المنهار؛ فلم يهدموا دولته ومؤسساته ولم يحرقوا إرثه كما فعل جاي غارنر وبول بريمر بالدولة العراقية ومؤسساتها. وفي مسيرة تكريس الوجود التي دأب عليها الحكم الجديد استطاع أن يستثمر كل شيء في سبيل ذلك، حتى مشكلاته الداخلية والخارجية ومعاركه في الجبهات كانت أوراقا يُدير بها همّه اليومي؛ فوظّف يهود إيران ذوي الخيط الرفيع مع كبريات الشركات العالمية في شراء ما يحتاجه من عدة وعتاد أيام الحرب والسلم، ووظّف الحصار من حالة مأزومة إلى حالة إنتاج البدائل؛ فزرع القمح الذي كان يستورده من أستراليا وصنّع السلاح الذي كان يشتريه بالابتزاز، وقَلَبَ حربه مع البعث من حربٍ فارسية عربية إلى حرب تقليدية بفعل خطابه الديني وعلاقاته الخارجية. ثم إنه استطاع أن يُمكّن سياسته من ملفات المنطقة وأن يفرض واقعا تُراعَى فيه مصالحه، ويتداعى له الفرقاء لحلّ أزماتهم، فتجد الإيرانيين وسطاء بين أنظمة سياسية عربية (دمشق والرياض) أو بين أحزاب وأفراد (حزب الله ومُناكفيه) وبين دول وأحزاب (تركيا وأكراد العراق، أو واشنطن وقوى شيعية عراقية). ثم لك أن تتصوّر كيف أن استقالة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني جعلت من وسائل الإعلام العربية والغربية لأن تُسرف بلا حساب في تناول هذا الخبر، وأن يبقى المحللون السياسيون على شاشات الفضائيات ولأسبوع كامل في تقييم هذه الاستقالة التي لم يُفسّرها صاحبها بأكثر من أنه لا يجد ما تقوله الصحف عندما ينظر إلى نفسه، وهو اهتمام حثيث لا يُقام إلاّ لدول محورية.
(2) قد أتوقّع سيناريوها عسكريا أميركيا يُعَدَّ على الورق الآن في البنتاغون، لكنني أستطيع أن أجزِم بفشله الحتمي لأن الأوضاع لن تكون طيّعة للأميركيين، فإذا ما بدأت القوات الأنغلوساكسونية هجومها على الأراضي الإيرانية ستكون الأوضاع كالتالي: احتلال إيراني فوري لمضيق هرمز الذي يمرّ منه أكثر من أربعين في المئة من نفط العالم، وإذا ما استطاعت القوات الأميركية استرجاعه حينا سيُعاود الإيرانيون السيطرة عليه في حين آخر وسيقومون بجعله ممرا غير آمن عبر هجمات بحرية متتالية، كما ستلجأ طهران إلى توظيف الحدائق الخلفية لها وأهمها شمال العراق عبر توتير المنطقة الكردية وبالتالي تمزيق الحزام النفطي الآمن الذي يمر منه النفط المتدفق من ثلاث دول الأمر الذي يعني ارتفاع أسعار النفط إلى أرقام جنونية، وخصوصا أن فصل الشتاء على الأبواب، أضف إلى ذلك فإن أي هجوم أميركي على طهران سيعني تبدّل الولاءات والتحالفات السياسية في داخل العراق، وستنقلب معظم الميليشيات التابعة للأحزاب الشيعية من مهادن للقوات الأميركية إلى مناكف لها، وأهمها فيلق بدر الذي اعتاش لسنين طويلة على الدعم الإيراني المباشر وجيش المهدي وثارات الله، وهو ما يعني أن الإيرانيين سيعمدون إلى تشغيل الوجود الاستخباراتي النوعي في داخل العراق والسيطرة على طريق الديوانية - القاسم بمحافظة بابل ومحيط النجف ومناطق الجنوب لإرهاق القوات الأميركية في تلك المناطق بحرب عصابات، وهو الأمر ذاته الذي قد ينطبق على ثمان وعشرين مليون شيعي في باكستان لديهم علاقات متينة على الدولة الإيرانية وكذلك الحال في آذربيجان ودول أخرى.
(3) قد تبدو معارك اليوم العسكرية هي معارك إلكترونية؛ بحيث يتم توجيه الآلة الحربية من البحر أو الجو ومن على بُعد مئات الكيلومترات؛ لكن هذا النوع من الحروب الذي يهدف إلى تقليل الخسائر لم يعد قادرا على حسم المعارك الكبيرة من دون اللجوء إلى خيار القوات البريّة، وبالتالي فإن لجوء القوات الأميركية إلى اجتياح برّي للأراضي الإيرانية سيعني سيناريو جديد لم تواجه الولايات المتحدة شبيها له في حروبها المئة وواحد وثلاثين من واندود كني إلى العراق، فالقوات الإيرانية هي مزيج ما بين قوات تقليدية وحديثة يضمها الحرس الثوري والجيش الإيراني؛ وما بين قوات ميليشياوية تعدادها يتجاوز العشرة ملايين فرد مُدربة تدريبا جيدا ومُوزّعة على قوات التعبئة الشعبية (البسيج) وبين ألوية كربلاء وخازان زينب في عشرات الآلاف من القواعد العسكرية، وبما أن القوات الإيرانية هي قوات عقائدية ومُؤدلجة؛ فإن التعاطي معها بثقافة المعارك العسكرية التقليدية غير مُجد؛ وهو ما بيّنه التاريخ العملياتي للحرب العراقية الإيرانية، فالجيش العراقي لم يستطع أن يُحافظ على الأراضي التي احتلها بعد الثاني والعشرين من سبتمبر/ أيلول من العام 1980 لأكثر من سنة، بعد عمليات ثامن الأئمة وعمليات الفتح المبين وتحرير مدينة بستان وديزفول وشوش ونحو 2800 كم من الأراضي الإيرانية وختمها بتحرير خرمشهر، وقد وثّق التاريخ بأن الآلة الحربية الإيرانية كانت تعتمد اعتمادا كبيرا على التعبئة العقائدية وعلى العنصر البشري والعمليات الانتحارية وتأمين الأرض بالأجساد، وهو ما يعني التضاد العسكري الأدنى مع الهجمات المباشرة في حدّها الأعلى. أضف إلى ذلك فإن القوات الأميركية في غزوها البرّي ستواجه معضلتين حقيقيتين على الأرض بالإضافة إلى الإغراق الحربي الإيراني البشري، الأولى: أن القوات الأميركية ستعتمد الحدود العراقية مدخلا لتمرير فيالقها الحربية، والمعروف أن المحافظات الإيرانية المتاخمة للعراق وهي خوزستان وإيلام وكرمنشاه وباختران وكردستان تحوي على أكثر من ستة عشر مليون لغم مزروعة على مساحة أربعة ملايين هتكار من مخلفات الحرب العراقية الإيرانية وقد تسبّبت تلك الألغام في قتل 395 إيرانيا، وهو ما يعني أن الممرات التي سيعتمدها الجيش الأميركي لن تكون آمنة. المشكلة الأخرى هي أن إيران تُنتج أكثر من 80 في المئة من أسلحتها الثقيلة الأمر الذي يجعل من عمليات الحصار عليها بغرض تجفيف مستودعات السلاح لديها أمرا غير ممكن، فهي تُنتج صواريخ شهاب 3 و4 وصواريخ فاتح 110من طراز أرض أرض وصاروخ فجر وكوثر والطوربيد حوت شديد السرعة ودبابات تيماز وذو الفقار والطائرات الخفيفة من دون طيار ومقاتلات إف 4 وإف 5 والطوافة شباوز 75 وشباوز 206 وغيرها من المعدات الأخرى، وهي قيمة استراتيجية تضاف إلى قوة الآلة الحربية الإيرانية.
بقي هناك متغيران يتعلقان بالقيمة الاقتصادية لإيران بالنسبة إلى العالم ودورها في تسكين أوجاع بعض العلاقات الدولية المتوترة الموصولة بنقاط ارتكاز في الشرق قد أتطرق إليها في موارد أخرى، لكن ما يهمنّي من كل ذلك هو أن خيار الحرب مستبعد ولا أتصور أنه سيحلّ على المنطقة مهما وصلت أحجام التناقضات في المصالح والتوجهات، مع أن الجنون لا يُمكنه أن يمنع محذور.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1893 - الأحد 11 نوفمبر 2007م الموافق 01 ذي القعدة 1428هـ