هذا المقال كان بين يدي المخمسين من الرجال والنساء الذين جاءوا بدعوة من فضيلة العلامة الشيخ حسن الصفار في موعدهم السنوي الذي يلتقون فيه مع سماحته ضمن أمانة الحقوق الشرعية، ليطلعهم على الوارد والصادر من الحقوق خلال عام كامل، وفي أجواء مليئة بالصراحة والمكاشفة والوضوح، وامتاز لقاء هذا العام بالإعداد المسبق والمشاركات الجميلة من الحاضرين، وقد استمر اللقاء زهاء الساعة ونصف الساعة مساء يوم الخميس 8 نوفمبر/ تشرين الثاني2007م.
وكلاء المراجع المبثوثون في مختلف البلدان والأقطار هم (بحسب المفترض) بصر المرجع ويده وأعصابه وسمعه ولمسه ومختلف وسائل الإحساس التي تجعل المرجع على اطلاع بما يجري لمقلديه وأتباعه أينما وجدوا في أطراف هذا العالم الواسع ويعني ذلك أنهم وسطاء بين المرجع وبين المجتمعات التي يوجدون فيها، فهم الخط النازل بأحكام المرجع وفتاواه وآرائه، وهم الخط الصاعد المحمل بهموم مجتمعاتهم وقضاياها وأنشطتها وتطلعاتها إلى الفقيه، تماما كما هي وظيفة الحواس مع الدماغ، يستطيعون (في مفروض ما سبق) أن يساهموا مساهمة وافية في تشخيص الكثير من الموضوعات التي يعايشونها والتي تشكل الأرضية المهمة والمؤثرة في أحكام المرجع وفتاواه، إذ من المعلوم أن وضوح الموضوع ودقة تشخيصه تساعد في سلامة الحكم ومطابقته لمراد الشارع وإسعاد المكلف.
يهمني هنا أن أتحدث عن تعامل الوكيل مع الحقوق الشرعية التي يقبضها من المكلفين باعتباره مخولا في ذلك لامتلاكه وكالة صادرة من مرجع التقليد، على أن الوكالة لا تحول الوكيل إلى ناقل للمال فحسب من المكلف إلى المرجع بل هي (في الأعم الأغلب) تتيح للوكيل التصرف في نسبة من الحقوق الشرعية يصرفها فيما يراه جالبا لرضا الإمام (ع)، وفي مختلف شئون المؤمنين من مجتمعه، ممن تكون حوائجهم ملحة وضرورية كالفقراء والمحتاجين، والمديونين، وكذا مختلف المشروعات التي لها علاقة بتقوية البناء الاجتماعي والأخلاقي والديني للمجتمع.
وهنا قد يجيز المرجع وكيله بالتصرف في 20 في المئة من الحقوق أو 25 في المئة أي ما يعادل الربع مما يقبضه من المكلفين أو الثلث أو النصف، وقد تكون الإجازة واسعة بحيث يخول الفقيه وكيله بالتصرف في جميع الحقوق الشرعية التي تصله نظرا إلى الاطمئنان لتشخيص الوكيل، أو لظروف مجتمعه، أو لعدم حاجة المرجعية للمبالغ المالية في إدارة عملها الديني والتبليغي بسبب اكتفاءها بما عندها أو لأي سبب وجيه آخر يرتئيه الفقيه.
يمكن الإشارة هنا أن النسبة المتاحة لتصرف الوكيل (ضمن الضوابط الشرعية) والتي أتاحها له الفقيه المرجع قابلة للتوسيع والزيادة إذا كانت الحاجات والضرورات في مجتمع الوكيل أكبر من أن تستوعبها النسبة المتاحة، إن بإمكان الوكيل أن يشرح الأمر للمرجع أو يرسل له من يشرح الموضوع ليندفع المرجع سعيدا مرحبا بمضاعفة النسبة وتوسيع إجازة الصرف فيها لتستوعب حدا أكبر من حاجات المؤمنين وتعالج ضغوطهم ومتطلبات حياتهم.
هذه السعة التي تتيحها الإجازة في التصرف دفعت بعض الوكلاء (وهم قلة) للتصدي لشئون الحوزات وإكرام طلاب العلم ورعاية الفقراء والمحتاجين والأيتام سواء عبر الجمعيات القائمة واللجان المختصة أم عبر أمناء وصلحاء من المؤمنين يتابعهم الوكيل مباشرة، والإنفاق على المشروعات الدينية والاجتماعية مع مراعاة أوامر الشرع والسعي لإحراز رضا الإمام (ع) والعمل بما تقتضيه إجازة الفقيه.
لكن بلادنا لم تعدم وكلاء يغيبون الحقوق التي يقبضونها عن الفعل الاجتماعي المرتبط بضرورات الفقراء والمحتاجين، ورعاية طلبة العلوم الشرعية، ومختلف مناشط المجتمع الحيوية، مع حاجة بلادهم ومجتمعهم لذلك، وهذا لا يعني اتهامهم بالتصرف غير المنضبط لا سمح الله بل أقول إنهم يفضلون إرسالها للمرجع من دون التصرف في أي شيء يعتد به لمجتمعهم وتحسين أوضاع أهاليهم.
هؤلاء الوكلاء مقتنعون تماما بترحيل الحقوق الشرعية إلى خارج السياج الذي يوجدون فيه مع أن عندهم من الإجازة ما يمكنهم من الصرف المحلي الذي يقوي مجتمعهم ويرفع وعيه ويسد حاجاته، وهم لا ينفكون عن الإيحاء للناس أن ما يقومون به هو الصواب بعينه لأنه إبراء للذمة وتخلص من المسئولية، وضمان لعدم الوقوع في اشتباهات التصرف والصرف أمام الله سبحانه وتعالى، إضافة إلى أن الفقيه أعرف بموارد الصرف وبتشخيص الموضوع، وهذه الكلمات بما تحمله من معان روحية تدفع بعض المكلفين للدفاع عن هذا الموقف باعتباره زيادة في الدين والتقوى والقداسة والسمو الروحي، وتباعدا عن البروز والظهور والمدح من قبل الناس.
أتصور إنها قداسة وروحانية غفلت حاجات المجتمع، وأغمضت العين عن مناطق ضعفه ومنعته نعما كان حقه أن يستفيد منها، وحرمته من خيرات طريقها الأفضل أن تصرف عليه مع حاجته إليها، إنها حالة إبراء الذمة للوكيل (حسب تصوره) لكنها شغلت كثيرا من المكلفين بأسئلة لم تكن لتجد طريقها إلى نفوسهم لو قام الوكلاء برعاية مصالح الناس في صرف الحقوق واهتموا بإيجاد لجان تعنى بالصادر والوارد والوضوح في تقسيم الحقوق الشرعية على مختلف شئون الناس المقبولة شرعا.
لقد أخذت نفسي على عجل وسحت أتصفح موقع آية الله العظمى السيستاني ثم اخترت اللغة العربية فأسئلة وأجوبة ثم اخترت حرف (الخاء) وفتحت الأسئلة والأجوبة في باب الخمس.
كان السؤال رقم (50) يستجيز المرجع في صرف الحق لعلاج مريضة وإجراء عملية لها، وسؤال رقم (53) عن التصرف في الخمس للشعائر الدينية والندوات الفكرية، والسؤال رقم (76) عن صرف الخمس لشراء أدوية (وحاجتنا ماسة) لا توفرها الدولة للمرضى الراقدين في المستشفيات.
وكان سماحة السيد لا يمنع من ذلك كله بل يعلقه بالاستئذان منه، ليكشف لنا أن هناك الكثير من الحاجات والموضوعات تحتاج فقط إلى طرق باب المرجع كي يأذن فيها، مع ملاحظة أن الأسئلة في الموقع الالكتروني عادة ما تأتي من المكلفين، ولذلك ربط السيد جوابه بالاستئذان منه، أما الوكلاء فلديهم تواصلهم المباشر أو شبه مباشر مع سماحة السيد، وفي ظني ستكون الإجابة راجعة لما يشخصه الوكيل من حاجات الناس، ولما يقدر عليه لسانه من بسط وتوضيح لفائدة ذلك ومردوده على المجتمع.
لاحظت أن السيد في جواب سؤال رقم (93) يجيز صرف سهم السادة للفقير ليحج به، إذا استقر عليه الحج ولم يكن لديه ما يتمكن معه من أدائه للحج، وفي جواب (100) يجيز الصرف للشاب المتدين المضطر للزواج من سهم الإمام بأن يجعل في الصداق نفسه (المهر) لا في الشئون الكمالية. هذه نماذج لأجوبة سماحة السيد لأسئلة المكلفين، ما يكشف أن هناك آفاقا لو طرقها الوكلاء وشافهوا فيها المراجع لأمكن توسيع الصرف وتوسيع موارده لتشمل نواح مختلفة من حاجات المكلفين، وأود أن أقول إنني لم استحضر هذه الأجوبة كي يثبت ذلك في أذهان المكلفين أن مصرف الحقوق ضيق، وأننا في كل شيء بحاجة إلى سؤال المرجع كي يوسع لنا في مصارفها أو موارد صرفها، كلا لأن هذه أسئلة ترد للموقع من المكلفين، أما الوكلاء فقد أسلفت أنهم يعلمون سعة موارد الصرف وموكل إليهم شأن كثير من التوسعة في الصرف والإنفاق في مختلف مشروعات المجتمع التي تقوي دينه وأخلاقه واجتماعه. إن حاجتنا لتقوى الوكيل لا تقل عن حاجتنا لسعة أفقه، وانفتاحه ليرى الضرورات الطارئة والمتغيرة في أوضاعنا، ولا تقل عن حاجتنا لسعيه متلمسا الطريق في قضاء حوائجنا، ولا تقل عن حاجتنا لملامسته آلامنا وضغوط الحياة علينا.
إن حاجتنا الحقيقية هي إلى قداسة وتقوى تنهض بمسئوليتها، وتتصدى لما استؤمنت عليه لصالح مجتمعها، وتتحمل أعباء الموقع الذي هي فيه باعتبارها وكيلا للمرجعية.
أما القداسة والتقوى والزهد بمعنى الهروب عن المسئولية، وعدم التصدي لإدارة الموارد المالية من الحقوق الشرعية لتصرف على حاجات الناس التي يمكن الاستجازة فيها، وفقدان الثقة في القدرة على تقييم الأمور وتشخيص موضوعاتها، فهي قداسة وتقوى بيننا وبينها كثير من الاختلاف مفهوما ومصداقا.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1893 - الأحد 11 نوفمبر 2007م الموافق 01 ذي القعدة 1428هـ