منذ الزحف على إفريقيا في القرن التاسعَ عشرَ، اعتدنا التدخل الغربي، مع أن زوال الاستعمار كان يفترض أن يكون نهاية لذلك، ولكن بعد مغادرة القبعات النسيجية والبدلات الضيقة إفريقيا، وُلد استعماريون جدد: المنظمات غير الحكومية الموجودة هنا لحفظ إفريقيا من كل شيء، من الغذاء المعدَّل وراثيا إلى العولمة!
تتكوّن المنظمات غير الحكومية من جماعات المستهلكين، الفرق الإنسانية، ومؤسسات التنمية الخيرية، التي توحدت في الاعتقاد بأن الحضارة الصناعية الحديثة، والأرباح والمنافسة ليست أخلاقية. من وجهة نظرهم، ستتم خدمة الأفراد، وخصوصا في الدول النامية، بشكل أفضل بواسطة الأنظمة الشاملة وتدخل الدول التي تفضّل إعادة توزيع الثروة على الدينامية التي أَثْرَت الغرب وبعض الدول الآسيوية مثل تايوان، واليابان وكوريا الجنوبية.
ولكن على رغم ادعاءاتها بأنها تمثّل مصالح الفقراء، جاءت فئات عدة فقط من المنظمات غير الحكومية المسجلة بالأمم المتحدة من الدول النامية، والغالبية الساحقة من الولايات المتحدة، والكثير من بريطانيا، وفرنسا وألمانيا.
لهذه المجموعات تأثير يفتح الطرق لأبعد من حجمها. الكثير من الدول الأفقر ليس لديها المقدرة على تشكيل سياساتها الخاصة بالخدمات الاجتماعية مثل الصحة؛ لذلك تتعاقد بشكل فرعي مع منظمة الصحة العالمية التي استُعمِرت من منظمات غير حكومية عملت استشاريَ سياسات يلعب دورا كبيرا في تشكيل النصائح الفنية للدول الأعضاء، مع أن «خبراء» المنظمات غير الحكومية يعملون بشكل خاطئ باستمرار.
خذ مثلا مرض الإيدز. بسبب عدم إمكان الشفاء، فالطريقة الوحيدة لمواجهة انتشار الوباء هي تفضيل استخدام الوسائل الوقائية لوقف تزايد عدد الإصابات سنويا. طبعا، المعالجة ضرورية ولكن ليس لدرجة استثناء الوقاية. ومع ذلك، ضغطت المنظمات غير الحكومية بشدة للحصول على معظم الأموال العامة لصرفها على برامج المعالجة الدوائية للذين أصيبوا فعلا، مع أن الدول الأشد إصابة لا يوجد بها أطباء وعيادات لإدارة الدواء.
خضعت منظمة الصحة العالمية للضغط، وهكذا استمرت الإصابات بالزيادة وأصبحت المعالجة غير منظمة.
حصل شيء مشابه للملاريا. سيطرت دول من الهند إلى جنوب إفريقيا بنجاح على الملاريا بواسطة رش داخل البيوت بالـ «دي دي تي». روّج ناشطو البيئة والمنظمات غير الحكومية لقصص مرعبة وغير منطقية من الولايات المتحدة للسيطرة على المبيد وضغطوا من أجل حظره؛ فأوقفت منظمة الصحة العالمية التوصية باستخدامه في التسعينات وحظر بشكل فعّال؛ فازدادت الملاريا عالميا. حديثا، أعادت جنوب إفريقيا إنتاج مبيد الرش الـ «دي دي تي»، وانخفضت الحالات!
أخافت المنظمات غير الحكومية الغربية المستهلكين الأوروبيين أيضا، ودفعتهم إلى عدم شراء المحاصيل المعدلة وراثيا التي تزرع في إفريقيا، وصعّبت الأمر على المزارعين الذين يصدّرون للاتحاد الأوروبي لإعالة أنفسهم.
كما عملت المنظمات غير الحكومية على مستوى الحكومات المحلية أيضا، من خلال النصائح المباشرة للحكومات الإفريقية. واهتمت الحملة الأخيرة بالعلاقة بين الملكية الفكرية والصحة العامة؛ إذ جادل الناشطون لسنوات عدة بأنه، وللتطور البطيء جدا من أدوية الأمراض الاستوائية بالدول الأفقر، منعت براءات الاختراع ذلك، وهذا ظلم موروث بحسب ادعائهم.
استخدم الناشطون هذا الادعاء لدفع منظمة الصحة العالمية لعقد معاهدة للأبحاث والتطوير الطبي يحدد بموجبها البيروقراطيون، وليس الأسواق، ما الأمراض التي سيتم إجراء بحوث عليها. وأملوا في أن لو استثنيت الأرباح من المعادلة، فذلك سيدخلنا إلى عهد خيالي جديد تنفجر فيه قنبلة من الأدوية الرخيصة التي ستتوافر مجانا للفقراء بغض النظر عن حقيقة أن عمليات الأبحاث والتطوير التي قادتها السوق أنتجت الغالبية الساحقة من العلاجات المتاحة في الدول الغنية والفقيرة بكلفة بسيطة - أو من دون كلفة - على دافعي الضريبة. ستضعف هذه المعاهدة أيضا حقوق الملكية الفكرية، وستمكن أية حكومة من نسخ الأدوية المرخصة، وتزيل الحوافز إلى الأبحاث والتطوير الابتكارية.
لقد حققت المنظمات غير الحكومية ذلك بالضغط على الحكومات الإفريقية في منظمة الصحة العالمية: المتشابهات بين أدب حملات المنظمات غير الحكومية والموقف الرسمي لكينيا، المؤيد الرئيسي لهذا المخطط، كثيرة وليست محض مصادفة.
طبعا، حكومة كندا لديها أسبابها الخاصة لدعم هذا المخطط؛ لحماية صناعتها الدوائية وتحويل اللوم في فشلها الخاص في الرعاية الصحية على الأجانب مثل الشركات الدوائية الدولية!
كان لأعضاء المنظمات غير الحكومية المنادين بالسياسة الدولانية تأثير كبير على الرأي العام، وعلى ايديولوجيات الامم المتحدة والحكومات الافريقية، على رغم ان مقترحاتهم لم تعمل في بلادهم، أي: الغرب. وقبل أن نأخذ نصائحهم، يجب ان نقرأ الوصفة بعناية، وبخلاف ذلك سنعاني آثارا جانبية خطيرة.
*مدير مؤسسة السوق الحرة في جنوب إفريقيا،
والمقال ينشر برعاية «مصباح الحرية»
www.misbahalhurriyya.org
إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"العدد 1891 - الجمعة 09 نوفمبر 2007م الموافق 28 شوال 1428هـ