قالت امرأة لغلامِ شاعرٍ جاهلي: «أعْلِم مَولاك أن أبي ذهب يقرب بعيدا ويبعد قريبا، وأن أمي ذهبت تشقّ النّفس نفسين، وأن أخي يراعي الشمس، وأن سماءكم انشقت، وأن وعائيكما نضبا». هذا الحديث في لغة أقحاح العرب فنٌ من فنون الصناعة اللغوية الراقية التي تتبارى فيها بلاغتهم ومسامراتهم. وبغضّ النظر عن حديث البعض من النقاد عن منحول الشعر المُعلّقي أو الشّنفري؛ فإن اللغة التي كانت تسود قبائل العرب هي من النوادر التي وازت في مكانتها ما كان لدى الآخرين من أمارات تقدم.
ضمن غور التاريخ منذ أن صاغت الحضارات المختلفة من سومرية وبابلية وفارسية وهندية وغيرها تاريخ البشرية قبل قرون سحيقة، تراكم النُطق البشري بمسار ممتد فكانت لغات الناس تحاكي تطورهم، أو كما كان يقول نُعَيْمَة: «أما السر في تقلّب لغات البشر فليس في اللغات؛ بل في البشر أنفسهم؛ لأن الإنسان هو الذي أوجد اللغة، ولم توجد هي بدونه، فهي تحتاجه لا هو يحتاجها، وتتغيّر بتغيّر أطواره ولا تتغيّر بتغيّر أطوار أطوارها، هي آلة في يده وليس هو آلة في يدها».
في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي أفاد الصحافي بصحيفة «نيويورك تايمز» جون نوبل ويلفورد أن العلماء المهتمين بأصول اللغات ومساراتها قد توصّلوا إلى أن نصف اللغات التي يلوكها الناس (7000 لغة) مُهدّدة بالانقراض في بحر هذا القرن، بل إن الرصد العلمي المتلاحق لتلك الأزمة قد توصل إلى أن لغة واحدة تختفي كل أربعة عشر يوما، وأن بعض تلك اللغات المنقرضة لا يتحدث بها سوى شخص واحد يعيش في أحد الأمكنة البعيدة في وسط إفريقيا أو وسط أميركا اللاتينية وساحل المحيط الهادي حتى في شرق سيبيريا وجنوب غربي الولايات المتحدة من السُكّان الأصليين (كلغة الآمورداغ) وخصوصا أن نصف اللغات ليست مكتوبة، بل إن البحّاثة اكتشفوا أن ثلاثة أشخاص من السكّان الأصليين هم فقط من يتكلّم لغة الماغاتيكي في أستراليا، وثلاثة آخرين فقط يتحدثون لغة الياوورو.
عندما أقرأ أن هناك بطونا سريّة لبعض اللغات المحلية في جبال الأنديز وحوض الأمازون تملك وحدها كُنْهَ التعريف بالنباتات الطبية غير المألوفة في سوح العلوم، أستحضر قيمة الرحلات التي قام بها كلود ليفي شتراوس ومغامراته الإثنوغرافية في أمكنة منسيّة في هذا العالم سطّرها في مدارياته الحزينة، ولم أعد آسَفُ على قوله في تصدير سيرته الذاتية إنه كان يمضي ستة أشهر من السفر والحرمان والإعياء للحصول على أسطورة مجهولة، أو عادة في الزواج أو قائمة بالأسماء القبلية. إن استحضار ما كان يرسم ماضي الأقدمين وتطويعه بالإفادة (وخصوصا في مجال اللغة) هو أمر مفقود في التعاطي المكتوب في واقعنا الثقافي المعاش، وربما لماما هي الكتب التي سكّت متنها بلغة فريدة فربحت العربية ولم تخسر هياج الواقع الذي له حقّ الحياة أيضا ولكن ليس على حساب من فكّ طلسم الحياة ويسّر عُسرها.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1889 - الأربعاء 07 نوفمبر 2007م الموافق 26 شوال 1428هـ