العدد 1889 - الأربعاء 07 نوفمبر 2007م الموافق 26 شوال 1428هـ

«الرقابة» والوجه الآخر لـ«المماحي»

ثلاثة أرباع «حرس» الرقابة على الإصدارات والمصنّفات في العالم العربي يدخلون المهنة ويمارسونها ويتعاطون مع ما يردهم من مواد بالعقلية والذهنية التي تظل متحكّمة في معظم المحالين على التقاعد من منسوبي الدفاع المدني، أولئك الذين اكتُشِف كثير منهم متلبسين بافتعال الحرائق كي يحافظوا على لياقتهم البدنية وتكدّس الأنواط والنياشين!

لا رقيب في العالم العربي يقبل بهذه المهنة، ويمارس بطشه من خلالها مالم تكن سيرته الطبية تشير إلى أن جيناته مليئة بالعسكر، سواء بالممارسة أو الوراثة!

بمجرد أن يقبل الشخص بالمهمة سيسقط بعدها كل حديث عن التجرّد والحياد والعقلانية، لأنه سيظل كلاما في الوقت ما بعد الضائع!

أنا على استعداد لبتر الأصابع التي تعينني على الكتابة في حال فهم الرقيب المهيب (الحبيب) النجيب على وزن (السليب) نصف صفحة من كتاب زميلنا الفاضل نادر كاظم «استعمالات الذاكرة»، وأنا على استعداد لأداء الخدمة العامة في كنس الشوارع والوقوف في أي طابور أمام شبّاك وزارة أو دائرة حكومية لمدة شهر من دون أن تكون لديّ معاملة لتخليصها وفي شهر أغسطس/ آب، إذا كان رقباء المطبوعات في هذا الوطن قد قرأوا عشرين كتابا في العام خارج عملهم الرسمي! هم يقرأون ضمن مظلة المهنة والمؤسسة، فقط للرصد/ الإمساك بأحدهم متلبّسا بجرعة زائدة من البحث والتفكير والحفر في «الذاكرة». هم يقرأون كي يكدّسوا ضحاياهم أمام «سعادته» و«معاليه»... هم يقرأون فقط كما يقرأ حارس الحدود نيّة من يحاول التسلّل إلى منطقة يعتقد أنها ستتيح له حالا من التوازن. لكأنَّ حال التوازن لدى المواطن بالنسبة إلى السلطة مدعاة إلى التسيب والخروج على العرف وقبله الكتاب والسنّة! هم يقرأون فقط كما يقرأ «الماسح الضوئي» من دون أن يفهم محتوى ما قرأه.

***

معظم الرقباء في أجهزة الإعلام مدمنون على القراءة، ولكنهم يثبتون مع كل قراءة أنهم الوجه الآخر للمماحي!

***

أعلم، ويعلم كثيرون أن «الرقيب» أداة قمع تمارس على شريحة محدودة في مجتمعات مصابة بسوء الشهية تجاه القراءة، وبالتالي تراهن السلطة عبر تلك الأداة، أن ردود الفعل لن تتجاوز حيّز البيانات والمقالات، مايضمن للسلطة تلك تأجيل قلقها من النتائج في الداخل، فلن تحتاج إلى قوات تدخل سريع أو بطيء، أو قوات لمكافحة الشغب المتعاطف مع المحجوب والمصادر من فكر وأدب وفن. وهي بالمناسبة ليست طمأنينة بقدر ماهي قلق... قلق من أن يعمد الفسخ لعمل فكري/ أدبي/ فني إلى إشاعة نوع من الصحو واليقظة والوقوف على حال «الذاكرة» أمس/ اليوم، ومن ثم تلمّس ملامح ومضمون الغد!

***

أكثر من رقابة في هذا الجزء المبتلى من العالم... رقابة مجتمع لا يكلف نفسه عناء القراءة مادام «مُجَهَّلا» بلهاثه المستمر وراء ضرورات الحياة، وبعبارة أدق، لا يملك أن يقرأ كما يجب. ورقابة السلطة بكل أجهزتها ودَرَكها وحرسها وكلابها البوليسية، وأجهزة تنصتها ومثقفي حفلات استقبالها الرسمية وغير الرسمية، تضاف إليهما رقابة ذاتية تنحر الكاتب نفسه من الوريد إلى الوريد، قبل أن يسيل دم حبره. والأخيرة أشد وأعنف وأكثر مرارة من سابقتيها!

***

«لا أحد حرٌّ في التعاطي مع حريته» هكذا تكرّس السلطة لفهم يتناسب وسطوتها، لكنها في الوقت نفسه تتناسى أنها تتعاطى بحرية مطلقة في حجب ومصادرة ذلك الحق!

***

تحاول أن تفهم: لماذا تعتقد الدولة أن مواطنيها أثاث يمكن استبداله؟ ولكن ألا تحتاج الدولة إلى موقف جمالي ما لاستبدال ذلك الأثاث؟

***

المؤسف في الأمر أن «الكبار» في هذا الحقل - حقل الرقابة - (ولا كبار فيه واقعا، ربما قبل أن يلتحقوا به) يحركون أدواتهم من صغار «القراء/ الحرس» مع مباركة ضمنية لموهبة الحواس الشاذة التي يتمتعون بها، وتجنيب الوطن كارثة البحث والتفكير والحفر في «الذاكرة».

العدد 1889 - الأربعاء 07 نوفمبر 2007م الموافق 26 شوال 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً