قال «بورائد» موجها حديثه لجاسم: طلبتك مبلغ خمسمئة دينار لأسددها كمصاريف دراسية إلى ابني، حيث أنه في السنة النهائية بالجامعة.
قال «جاسم»: عريان لافي على امفصخ.
قال «بورائد»: ظنيناك في الغوص (الغبة) لقيناك في اليارم...!
هذا حوار دار بين اثنين من كبار المناضلين السياسيين، الأول بورائد، هو إنسان بسيط وشعبي جدا، ومناضل من الطراز العتيق, والثاني رفيق درب النضال لأكثرية المناضلين في الفترة السبعينية تحديدا، وعلى درجة عالية من الثقافة.
«بورائد» ظن خيرا في رفيق نضاله «جاسم». وكان يأمل بمساعدته، خصوصا أن الموضوع الذي هو بصدده يخص ابنه العزيز، والذي هو على أبواب التخرج من الجامعة. إلا أن رفيق النضال كسر بخاطر «بورائد»، بل وطعنه في مقتل! لم يكن يدرك «بورائد» قبل ذلك أن «جاسم» بعد أن هادن وأصبح مدجن، مثقف مدفوع الأجر، ولا يُفهم من كلامه الكثير إلا النزر اليسير جدا جدا، لم يدرك «بورائد» أن صديق دربه ورفيقه «جاسم» قد تبدر منه هذه الهنة، وهذه الكذبة الكبيرة، وأن تنضح نفسه بالبخل على رغم من «المال الوفير» الذي يجري عليه ويسيل سيلان الدلتا في المروج الخضراء.
«بورائد» صاحب مبدأ، وكثير هم رفاقه من أصحاب المبادئ، لا يتزعزعون عما يؤمنوا به قيد أنملة أو مقدار نملة. وعادة «بورائد» لا يقصد أحدا لقضاء حاجاته فهو كفيل، بما عُرف عنه من نشاط وديناميكية في المجتمع أن يقضي معظم حاجاته من دون مساعدة أحد... إلا أن ضيق ذات اليد وخشيته من تعثر ابنه وضياع فرصة تخرجه من الجامعة كان خلف طلبه لجاسم مبلغ الخمسمئة دينار بحريني. والتي اعتبرها جاسم كبيرة، بل وقال مستشهدا بالمثل الشهير: عريان لافي على امفصخ.
لم يتمالك «بورائد» نفسه حينما سمع عبارة جاسم «عريان لافي على امفصخ»... ومسح قطرات ماء وجهه التي أراقها أمام «جاسم»، وتحدر الدمع من مقلتا «بورائد». وقال: وآسفاه... واحسرتاه على ما قضيناه معا في سبيل العمل الوطني والصداقة الحميمة التي ربطتنا ببعض.
كثيرة هي قصص المناضلين، الذين يتحولون إلى وصوليين، والذين ما أن تطأ قدمهم مناصب في وزارة أو مؤسسة، أو تكون لهم تجارة رائجة حتى يكونوا من أشد الناس بخلا وتقتيرا. ليس على رفاقهم في النضال، بل وحتى على أهلهم.
المفارقة التي أقف حائرا أمامها كثيرا هي: كيف للإنسان الذي يضحي، حتى بنفسه، أن يكون عبدا للدرهم والدينار، ويكون كل همه هو عد الدنانيرعدا؟! كيف لإنسان عاش ورفاقه مرارات السجن والنفي والإبعاد أن يكون شحيحا عليهم ولو باليسير اليسير مما رزقه الله فيما بعد؟!
إلا أنه ليس للإنسان أن يلعن القدر، وليس لـ «بورائد» إلا الصبر، بل عليه أن يشكر الله سبحانه وتعالى كثيرا، بسبب اكتشافه لهؤلاء، فالمال عديل الروح، وإن كان الرفيق صادقا في تضحياته سابقا إلا أنه قد لا يستمر أبد الدهر وفيا لمبادئه وآرائه التي دافع عنها وذاق مرارات السجن والنفي بسببها... ويا «بورائد»، كما أن هناك مثل هذا الإنسان، فهناك آخرون أكثر طيبة وكرما وعطاء على رغم أنه ليس لديهم رصيد في العمل السياسي، ولا قطرة من بحر الثقافة التي يتمتع بها «جاسم». «بورائد»، لا تحزن، وأدفع إليك بمقولة خالدة للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «في تقلب الزمان علم جواهر الرجال».
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 1888 - الثلثاء 06 نوفمبر 2007م الموافق 25 شوال 1428هـ