كتب أحد الزملاء تعريفا للفقر من ناحية إسلامية بقوله: «الفقير من لا يملك قوت سنته»، وهو حين اقتبس هذه العبارة، يبدو الشعور بضيقها. الفقير من لا يملك قوت سنته، ثم تكمل العبارة في تعريف بعض الفقهاء: «بالقوة أو الفعل»، بالفعل يعني أن ما يملكه في يده يكفيه لسنة كاملة، أما بالقوة، فتعني أن له دخلا - شهريا من مهنة مثلا - ولكن لا يكفيه. الإسلام لم يحدد الفقر بدخل معين أو بتوافر بعض الحاجات الحياتية، وإنما اعتبر الفقر والغنى أمرين نسبيين، وهذا يعتمد على مقدار الثروة المتوافرة في المجتمع. وما يحدد الفقير ويميزه من الغني هو متوسط معيشة الناس المفترض، فمن لا يملك سيارة وهو في بلد كالبحرين، يعتبر فقيرا يحتاج إلى مساعدة، ومن يملك حمارا في بلد آخر أو زمن غير هذا الزمن، فقد يعد غنيا أي مكتفيا.
ثم من الخطأ أن يُفهم من قوت السنة، الأكل والشراب فقط؛ بل القوت كل ما تتطلبه المعيشة، حتى مَن يملك قوت سنته ولكن عليه أضعافها دينا، يصدق عليه حكم الفقير كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء كصاحب الجواهر (جواهر الكلام، ج 15، ص 357). وحدّ الكفاية - الذي قرره قدامى الفقهاء قبل المحدثين - حد فاصل بين الفقر والغنى. فالفقير ليس من لا يجد كفايته ليس فقط من ضرورات الحياة، بل حين لا يتمكن من الحصول على ما اعتاده الوسط الاجتماعي الذي يعيش غالبيته في الحال الطبيعية بصفة طبقة وسطى، فهو فقير. وهذا الكلام ليس جديدا في عالم الفكر الإسلامي، فقد تناوله قدامى الفقهاء وأعاد طرحه الشهيد محمد باقر الصدر منذ الستينات.
يقول الإمام محمد باقر الصدر: «والكفاية من المفاهيم المرنة التي يتسع مضمونها كلما ازدادت الحياة العامة في المجتمع الإسلامي يسرا ورخاء. وعلى هذا الأساس يجب على الدولة أن تشبع الحاجات الأساسية للفرد، من غذاء ومسكن ولباس، وأن يكون إشباعها لهذه الحاجات من الناحية النوعية والكمية في مستوى الكفاية بالنسبة إلى ظروف المجتمع الإسلامي. كما يجب على الدول إشباع غير الحاجات الأساسية من ساير الحاجات التي تدخل في مفهوم المجتمع الإسلامي عن الكفاية تبعا لمدى ارتفاع مستوى المعيشة فيه». (محمد باقر الصدر: اقتصادنا، ص 701). أكثر مما سبق كله، أن درجة حد الكفاية - التي يعتبر فقيرا من لم يصل إليها - لا تقتصر على مستوى المعيشة وثروة المجتمع، بل مرونتها تتعدى ذلك لتراعي الشخص نفسه من حيث مكانته الاجتماعية وما اعتاد عليه من معيشة كاحتياجه إلى الخادم وهذا ما ذكره الفقيه الحلي بقوله: «يجوز لصاحب الدار والخادم والفرس أخذ الزكاة مع حاجته واعتياده لذلك». (الحلي، تحرير الأحكام، ج 1، ص 403).
وفي الأصل، إن الهدف من وراء الأحكام الشرعية الخاصة بالعبادات المالية كالزكاة والخمس، ليس مجرد سد الحاجات الضرورية للفرد لحد الكفاف، وإنما هدفها إغناء الفقراء وإيصالهم إلى حد الكفاية بمعناه الواسع، أي سد حاجات الفرد في كل جنبة من جوانب الحياة، من حاجة إلى سكن وتعليم ومأكل وملبس وغيرها من حاجات، ويستدل بعض المفكرين على ذلك بالرواية عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) حين يعدد وظائف الدولة تجاه مال الزكاة بقوله (ع): «... أخذه الوالي فوجهه في الوجه الذي وجهه الله تعالى له على ثمانية أسهم... يقسمها (أي الزكاة) بينهم في مواضعهم بقدر ما يستغنون في سنتهم بلا ضيق ولا تقتير...» والعبارة الأخيرة تعني - كما يقول الصدر - أن «تعميم الغنى هو الهدف الذي تضعه النصوص أمام ولي الأمر».
وينبغي هنا التنبيه لوجوب التمييز بين حدّ الكفاية - الذي هو حد الغنى - وحدّ الكفاف الذي هو الحد الأدنى للمعيشة. وإيصال الفرد إلى حدّ الكفاف لا علاقة له بدفع الحقوق المالية الشرعية كالزكاة، فهو واجب كفائي، فيجب أن يبادر أفراد المجتمع إلى إيصال الفقير إلى هذا المستوى سواء بواسطة الزكاة أو من أموالهم الخاصة، أما إيصال الفرد إلى حد الكفاية فبالدرجة الأولى من مسئولية الدولة، وهو ما يُطلق عليه «الضمان الاجتماعي» في المصطلح الحديث.
وأنقل هنا موقفا مؤثرا، صحّح فيه الإمام أبوعبدالله جعفر بن محمد الصادق (ع) لأصحابه مفهوما خاطئا عن مقدار ما يستحق الفقير: فعن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبدالله (ع): إن شيخا من أصحابنا يقال له عمر، سأل عيسى بن أبَان وهو محتاج، فقال له عيسى: إما أن عندي من الزكاة، ولكن لا أعطيك منها. فقال له (أي عمر): ولِمَ؟ فقال (عيسى): لأني رأيتك اشتريت لحما وتمرا. فقال (عمر): إنما ربحت درهما، فاشتريت بدانقين لحما وبدانقين تمرا ثم رجعت بدانقين لحاجة. قال (أبوبصير): فوضع أبوعبدالله (ع) يده على جبهته ساعة، ثم رفع رأسه، ثم قال: «إن الله تبارك وتعالى نظر في أموال الأغنياء ثم نظر إلى الفقراء فجعل في أموال الأغنياء ما يكتفون به ولو لم يكفهم لزادهم. بل تعطيه ما يأكل ويشرب ويكتسي ويتزوج ويتصدق ويحج».
وفي ذكر الإمام الصادق (ع) بعض الحاجات التي ينبغي تلبيتها من خلال الزكاة، كالحج والزواج، وحين يطلب من الغني أن يُغنى الفقير إلى حد تمكينه من التصدق وهو المُتَصَدَّق عليه، دليلٌ على أن ما ذكره من حاجات لا يفيد الحصر، والأمر متروك للزمان والمكان ومستوى معيشة أهله، والحاجات الحياتية المتجددة، وهذا ما تحدث عنه الكثير من الفقهاء. فأي مفهوم أرقى من مفهوم حد الكفاية نجده في الأدبيات الحديثة؟
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1888 - الثلثاء 06 نوفمبر 2007م الموافق 25 شوال 1428هـ