العدد 1888 - الثلثاء 06 نوفمبر 2007م الموافق 25 شوال 1428هـ

الإسلام السياسي والحكم والدولة المدنية

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

مازلنا منذ مقال الأسبوع الماضي نتحدث عن معضلة العلاقة المعقدة بين نظم الحكم في بلادنا، وبين ما يسميه الناس بتيار الإسلام السياسي، بجناحيه القتالي الجهادي بتفريعاته العنقودية أولا، وثانيا السياسي والدعوى. وإن كانت القاعدة تحتل واسطة العقد في الجناح الأول، فإن جماعة الإخوان المسلمين تمثل المظلة وربما القيادة التاريخية في الجناح الثاني.

وفي الوقت الذي ترفض فيه القاعدة وحلفاؤها، كل نظم الحكم القائمة، وتكفرها باعتبارها عميلة للغرب الكافر، ومن ثم تدعو لتدميرها وإزاحتها تماما من السلطة، فإن جماعة الإخوان، بعد تردد طويل، بادرت قبل أسابيع قليلة بإعلان برنامج أولى لحزب سياسي يمثلها، فإذا بها تتلقى الصدمات تلو الصدمات، بدلا من ترحيب كانت تتوقعه!

لقد حاولت الجماعة المحظورة قانونيا الناشطة واقعيا، ان توجه خطابا براغماتيا للرأي العام في مصر والعالم من ناحية، وللنظم الحاكمة المعادية لها من ناحية أخرى، تقول فيه إنها ترغب وتسعى للاندماج في الحياة السياسية، والدخول تحت مظلة الديمقراطية، التي طالما رفضتها تاريخيا هي ومؤسسوها الأوائل، باعتبارها تقليدا غربيا نقيضا لأصول الإسلام!

لكن البرنامج الذي طرحه الإخوان، لتأسيس حزب سياسي، اصطدم فور إعلانه بكثير من العوائق والرفض المصحوب بالصدمة، لأنه جاء في بعض أسسه السياسية والفكرية نقيضا لمبادئ الديمقراطية، مثل المساواة والتسامح وقبول الآخر، خصوصا فيما يتعلق بالمرأة والمواطنين المسيحيين، حين حرم البرنامج هؤلاء جميعا من حق الولاية وتولي المناصب الرئيسية، وحين أكد مفهوم الإخوان لتطبيق الشريعة الإسلامية الواردة في المادة الثانية من الدستور، وحين ابتدع «هيئة العلماء» لتكون مرجعا دينيا أعلى لها حق القبول أو الرفض لسياسات السلطة التنفيذية ولتشريعات البرلمان المنتخب، ربما تقليدا للنموذج الإيراني!

وعلى رغم أن البرنامج تعرض في أبوابه الخمسة للتوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفق المفهوم الإخواني طبعا، إلا أن القراءة الدقيقة لهذا البرنامج، تدل على أنه برنامج للحكم في دولة دينية. وليس اجتهادا سياسيا لحزب في دولة مدنية يقبل بشروطها وأفكارها الرئيسية، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن فكر ورؤى الآباء المؤسسين، أو الحرس القديم، داخل الجماعة لايزال هو المسيطر، على رغم محاولات الأبناء السياسيين، أو الحرس الجديد، صوغ برنامج يوائم بنوع ما بين الجماعة الدعوية التقليدية وبين الفكر السياسي الحديث، الذي يشتعل ويزدهر بمبادئ الديمقراطية، في ظل الدولة المدنية.

وفي ظل هيمنة فكر الحرس القديم، المتمسك بفكر الجماعة وإصرارهم على الجمع بين المصحف والسيف، بين السلطة الدينية وسلطة الحكم المدنية، انكسر جناح الحرس الجديد، في مواجهة جمود الكبار، فهجرها شباب كثيرون، وانكفأ غيرهم داخل أطر وتنظيمات الإخوان، يحاولون قدر الإمكان، تحيّنا لفرصة جديدة.

هكذا رأينا كيف تركت مجموعة (الوسط) بقيادة أبوالعلا ماضي وعصام سلطان، تنظيم الإخوان، في ظل حافز التجديد والتحديث مع التمسك بالأصول الإسلامية، وكيف أخذت رموز إخوانية قديمة ومشهورة لنفسها سبيلا آخر، بالصبمت أحيانا، وبالتصريح أحيانا أخرى، وكيف استمرت مجموعة أخرى منها عبدالمنعم أبوالفتوح وعصام العريان، تحاول من داخل تنظيم الجامعة تغيير مفاهيم الآباء الكبار سنا ومكانة في قيادة مكتب الإرشاد.

الا أن المحصلة الأساسية حتى الآن بعد أسابيع من طرح مشروع تأسيس الحزب السياسي للإخوان، هي المراوحة بين صدمة الرفض المطلق من أطراف وقوى سياسية وثقافية كثيرة، وبين المراجعة والتعديل مصحوبا بالنقد الرقيق من جانب قوى وشخصيات أخرى، ولم يكن السبب في كل ذلك إلا حالة «الغموض المقصود» الذي صيغ به برنامج الحزب، في وقت يتطلب الوضوح والإفصاح، وإلا تغليب ما هو ديني على ما هو سياسي في الدولة، وإلا تهميش المرأة والتمييز في المناصب العليا ضد المسيحيين، وإلا فرض الوصاية الدينية العليا على سلطات الدولة الحديثة!

والمؤكد أن أصدقاء الإخوان، وأنصار دمج التيارات الإسلامية السياسية «المعتدلة» في العملية الديمقراطية الحديثة، كانوا المصدومين في برنامج حزب الإخوان، لأنهم توقعوا تطورا في فكر الإخوان، وانتظروا مبادرة جريئة من جانب الجماعة، تزيل هواجس القوى السياسية المدنية، وتقنع المتخوفين بأن الإخوان يعملون حقا على الاندماج في مجتمع الدولة المدنية، ويقبلون بشكل واضح بمبادئ الديمقراطية الحقة، ابتداء من حرية الرأي والتعبير والاجتهاد والاعتقاد، وصولا لحرية تداول السلطة وتبادل المواقع من القمة إلى القاع، من دون استغلال الدين في السياسة.

ولسوء حظ جماعة الإخوان في مصر، أن طرحهم لبرنامج حزبهم السياسي المقترح، قد جاء في أوقات غير مواتية لقبول التيارات الإسلامية شريكا نشطا وفعالا في الحياة السياسية، بعد تنامي تهديدات «القاعدة» وفروعها بل وتنفيذها لعمليات دموية وإرهابية، وفي ظل النتائج المأسوية والأخطاء الفادحة، التي وقعت في دول عربية شارك فيها الإخوان المسلمين وتيارات إسلامية أخرى في السياسة والحكم، كما حدث في السودان مع بداية ثورة الاتقاد «تحالف البشير - الترابي» التي خاضت ما أسمته حرب الجهاد الإسلامي في جنوب السودان، وكما وقع في الجزائر منذ مطلع التسعينات وحتى الآن من مواجهات دموية بين السلطة والجماعات الإسلامية المسلحة، وكما نراه الآن في غزة المحاصرة بعد انقلاب حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على السلطة الفلسطينية بقوة السلاح وفرض الأمر الواقع.

ولايزال الرأي العام في مصر، يتذكر بكل معاني القلق، ما فعلته التنظيمات الإسلامية المتطرفة خلال الثمانينات والتسعينات وما ارتكبته من جرائم إرهابية، خصوصا جماعات الجهاد والجماعة الإسلامية والتكفير والهجرة والناجون من النار والطائفة المنصورة، وغيرها مما يصنفها الخبراء بأنها كلها خرجت من عباءة الإخوان، بدرجة من الدرجات، وأنها وليدة «النظام الخاص» الذراع المسلحة لتنظيم الإخوان منذ القدم.

ونظن أن جماعة الإخوان المسلمين مازالت أسيرة فكرها القديم وموروثها التاريخي، ومازالت تطبق مبدأ الطاعة المطلقة في المكره والمنشط، لقياداتها من حسن البنا في البدايات، حتى مهدي عاكف وعبدالله الخطيب اليوم، ومازالت مترددة حقا في نزع غطائها الديني أو مفهومها للدين، عن وجهها الحقيقي وطموحها السياسي، ومازالت تراوغ في تقديم دلائل الإقناع للرأي العام على الأقل، بأنها تقبل فعلا بدخول اللعبة السياسية الديمقراطية بكل قواعدها المعروفة... ولذلك فهي اليوم في مأزق!

وفي المقابل فإن جماعات وتيارات إسلامية سياسية في بلاد أخرى نجحت فيما فشلت فيه جماعة الإخوان في مصر، وها هي جماعة الإخوان في الأردن «جبهة العمل الإسلامي» تعمل شرعيا وتشارك سياسيا، بل وتدخل البرلمان والحكومة، ليس لأن النظام الأردني متفاهم معها فقط، ولكن لأنها قبلت منذ البداية قواعد العمل السياسي العلني... والأمر نفسه قائم في المغرب حيث جاء حزب العدالة والتنمية الإسلامي في المرتبة الثانية في الانتخابات الأخيرة، وفي اليمن حيث حزب الإصلاح جزء رئيسي من التركيبة السياسية الرسمية، وفي الكويت والبحرين وغيرها.

أما في تركيا حيث يحكم الإسلاميون حاليا مدعومين بغالبية برلمانية وبمنصبي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، فالتجربة لها خصوصيتها الشديدة وخلطتها النادرة، التي يختلط فيها الديني بالدنيوي، والمدني بالعسكري، والإسلامي بالتغريبي، والشرقي الآسيوي بالغربي الأوروبي... ولم يحدث ذلك إلا بميراث من التغيير والتحديث انتقالا من قصور السلاطين إلى مؤسسات الدولة الدستورية، وإلا بانفتاح التيارات الإسلامية على متغيرات العصر وشروط العيش فيه وقواعد الاندماج والتعامل معه، وطبعا جاء الرضا الأوربي الأميركي عن «الإسلام التركي المعدل» ليضفى مزيدا من البهارات على الوضع كله!

قد نعرف أن جماعة الإخوان في مصر تنتقد تجربة الإسلام السياسي في تركيا، وتراها تجربة لا تصلح شرعيا وسياسيا، ولكن لماذا لا تمد الجماعة بصرها إلى تجربة أبنائها وتلاميذها في الأردن وفي الكويت أو في المغرب الأقصى.

ونحسب أنها لو انفتحت وفعلت، لغيرت كثيرا من أفكارها. ولطرحت برنامجا سياسيا جديدا، يقنع ويتحاور ويجادل، ويزيل المخاوف والهواجس والشكوك المتراكمة.

أما أن تظل جماعة الإخوان، متمسكة بالسلطة الدينية والسلطة المدنية، فإنها ستظل محل شك الناس، وموضع ارتياب القوى السياسية والديمقراطية، وهدف القصف المدفعي لسلطة الحكم!

خير الكلام:

البصيرة أحدّ رؤية من البصر...

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1888 - الثلثاء 06 نوفمبر 2007م الموافق 25 شوال 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً