لم يقتصر سعي “الإيديولوجيا” على تمييز شخصية لبنان عن محيطها على العناصر الجغرافية وإنما اجتهدت لتأكيد الاختلاف على العوامل التاريخية ودور الطبيعة في صنع كيان سياسي مستقل في تكونيه الاجتماعي. فالجغرافيا تصنع التاريخ برأي رجال “الفلسفة اللبنانية”. والتاريخ يصنع الشخصية المميزة في تكوينها الثقافي ونظامها الاجتماعي ونمط الإنتاج. حتى “الإقطاعية اللبنانية” كانت متميزة ومختلفة عن المحيط الطبيعي وهذا ما أضاف إلى الشخصية خصائص مغايرة من ناحيتي الدور والوظيفة. فالكتابات التاريخية تكاد تجمع (جواد بولس، بطرس ضو، فيليب حتي، فؤاد قازان، وهنري أبو خاطر) على أنه بعد تمركز الفتوحات الإسلامية التي سحقت الوجود البيزنطي السابق في المنطقة وبدء تكون الدولة العربية الإسلامية الأولى (الأمويون) أخذت هذه الجبال تتحول إلى ملاجئ لا للفئات والأقليات الدينية الهاربة والخائفة من الإسلام كما يتصور البعض، وإنما إلى حصون وقلاع استراتيجية سياسية - عسكرية لبقايا النفوذ البيزنطي. بدأ التحول حين أخذت فرق المردة، التي أرسلتها القسطنطينية، بالإغارة على المواقع الإسلامية واستطاعت منذ دخولها شمالي لبنان سنة 677م (57 هـ) السيطرة على سلسلة القمم وصولا إلى القدس (فلسطين) وأنشأت دولة مستقلة تضايق الدولة الأموية باستمرار.
أمام هذا الوضع اضطر معاوية بن أبي سفيان إلى عقد صلح مع الملك البيزنطي قسطنطين الرابع لكف “شر المردة” لقاء جزية يدفعها له وذلك بسبب انشغاله في الحروب الداخلية. واستمرت هذه المعاهدة الأموية - البيزنطية إلى العام 685م (65 هـ) إذ حصلت مجاعة في أول عهد عبدالملك بن مروان فعادت غارات المردة تضايق مركز الدولة الإسلامية في دمشق، فاضطر الحاكم الأموي إلى طلب تجديد الصلح مع الأمبراطور البيزنطي يوستنيانوس الأخرم لقاء جزية كبيرة مقابل منع المردة من الغزوات. فوافق إمبراطور القسطنطينية وقام بنقل 12 ألفا من المردة إلى جبال كيليكية (تركيا) ما أتاح الفرصة لعبدالملك لضربهم في العام التالي سنة 686م.
حتى العام 686م (66 هـ) لم تكن الجبال اللبنانية أخذت صفة الملجأ بالمعنى الديني - الاجتماعي كما يشير بعض رجال “الأيديولوجيا اللبنانية”. فالصفة هذه لم تتبلور إلا بعد حادث ضرب المردة حين احتج الموارنة على فعلة الخيانة التي ارتكبها بحقهم حليفهم الإمبراطور البيزنطي يوستنيانوس الأخرم فقاموا في السنة نفسها بإعلان ماريوحنا مارون بطريركا عليهم وأعلنوا الانشقاق عن الكنيسة البيزنطية، فطاردهم الروم، فهرب الموارنة بقيادة مار يوحنا مارون إلى شمال لبنان سنة 687م (67 هـ) ونزل في منطقة جبيل (قلعة عمر). واستمر القتال بين الطرفين إلى العام 694م (75 هـ) حين حصلت أعنف المعارك وأشرسها وتتوجت بمهاجمة الروم دير مار مارون في شمال سورية وقتل 500 من رهبانه.
في هذه الفترة وقع انقلاب في القسطنطينية تولى فيه الإمبراطور لاوون السلطة محل الأخرم وعقد صلحا مع الموارنة عادت بنتيجته العلاقات إلى سابق عهدها. ولكن الخلاف ما لبث أن وقع من جديد سنة 727م (109 هـ) على المشيئة الواحدة والمشيئتين (طبيعة السيد المسيح) فانشق الموارنة مجددا، ونهائيا هذه المرة، وذلك سنة 742م (124 هـ) وانتخبوا البطريرك اسطفانوس رئيسا لهم. وبدأت آنذاك العلاقات المارونية مع روما بالتوثق والتوطد وفي الوقت نفسه تم اندماج الموارنة والمردة. ويعتبر بولس مسألة اندماج الموارنة مع المردة من “أبرز الحركات التاريخية في المجتمع الماروني اللبناني”.
صفة “الملجأ” لم تكن “لبنانية خاصة” والتجاء الأقليات لم يكن قبل العام 686م (66 هـ) بسبب الدوافع الدينية وإنما لأسباب اقتصادية كما كان يحصل في مختلف بقاع المنطقة. ولم تصبح الأسباب الدينية دافعا للنزوح والانتقال إلا بعد وقوع الخلافات والمعارك العنيفة بين أتباع الكنسية البيزنطية وأتباع كنيسة روما (الفاتيكان) وكنتاج عملي لسياسة التحالفات التي عقدتها “الأقليات” مع القوى الإقليمية.
أما على صعيد “الخاصية الاجتماعية” للتاريخ التي يقول بها عدة مؤرخين على رأسهم كمال الصليبي، فإن المسألة لا علاقة لها بالمساحة الجغرافية أو ما يذهب إليه كل من بطرس ضو وفيليب حتي وجواد بولس، في القول إن النظام الاجتماعي السائد في بعض المناطق الجبلية اللبنانية كان مناقضا كليا ومختلفا بصورة أساسية عن الأنظمة الاجتماعية في المناطق المجاورة إذ إن مجموع الدراسات يؤكد على أن الأنظمة كانت متشابهة مع بعض الاختلافات البسيطة.
يقول بولس في محاولة لتفسير هذه “الخاصية الاجتماعية اللبنانية” إنه مع نمو النظام الاقطاعي في الشرق الإسلامي نشأ نظام التكتلات أو التجمعات الطائفية. وكان الطابع المميز للإقطاعية اللبنانية هو كون الجماعة الإقطاعية مؤلفة من تجمع محلي وطائفي منظم يحكمه رئيس طائفي من المواطنين، شبه مستقل، يسود بعض الإقطاعات الصغيرة. ويضيف بولس أنه في جبل لبنان كان النظام الإقطاعي مخالفا للشكل في سورية وفلسطين إذ اعتمد السيادة الريفية أي السيد هو المالك والمتصرف بملكه يقيم بين فلاحيه وهم محاصة شركاء في المحصول.
أما حتي فيميز في العهد المملوكي بين الإقطاع السائد في المنطقة وبين الإقطاع القائم في لبنان. فيعتبر أن الاقطاع المملوكي كان غير وراثي بينما الاقطاع في الجبل كان وراثيا والفلاح لم يكن “قنا” كما في سورية ومصر لأن الاقطاع كان صغيرا يشمل من “قرية إلى عشر قرى” لذلك نشأ نظام المحاصصة والمناصفة لضبط هذه العلاقة. ويستنتج حتي من هذه “الخاصية الاجتماعية” أمرين: أولا، كان لبنان يفوق سائر المناطق زراعة. ثانيا، كان الأمراء اللبنانيون يمارسون حكما ذاتيا مستقلا، يورثون أولادهم، ولا يشتركون في جيش السلطان، ويفرضون الضرائب ويجنونها.
هذه الفرضية يرفضها المؤرخ فؤاد قازان حين يفكك مسألة الاقطاع في لبنان والمنطقة في تلك المرحلة. يذكر قازان أن نظام الأرض والضرائب الاقطاعي ساد في لبنان عموما، وإنما له مميزاته الخاصة، إذ يرجع تاريخ الاقطاعية فيه (ظهور الأملاك العقارية الكبيرة المملوكة من الأرستقراطية المسيحية) إلى القرنين الثالث أو الرابع الميلادي وكانت تشغل جمهرة من العبيد والأقنان. وبقي هذا النظام ساري المفعول إلى أن استنفد النظام الرقيقي إمكاناته الإنتاجية فاندفع المجتمع إلى مرحلة المرابعة والمشاركة والمحاصصة كشكل أرقى للعلاقات الإقطاعية. ويضيف قازان في الموضوع: عند ظهور الإسلام والفتح العربي كانت الملكية الاقطاعية ثم الفلاحية الصغيرة قد برزت تماما في الجبال السورية ثم أخذت الأولى (الملكية الاقطاعية) شكلا عسكريا سواء في السهول أو الجبال وذلك على أثر الفتح السلجوقي - التركي. ويعتبر قازان أن وجود السلاجقة في البلاد طبع الاقطاعية بطابع عسكري، ومع تطور الأوضاع كانت أرستقراطية الأرض لا تنتخب رئيسا عسكريا لتنسيق العمل الحربي، وأصبح الرئيس مع مرور الزمن يحمل لقب الأمير (وهو لقب عسكري) يأتي بعده المقدمون والمقاطعجية والمشايخ وهو النظام الذي ساد الجبل حتى قيام المتصرفية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2275 - الخميس 27 نوفمبر 2008م الموافق 28 ذي القعدة 1429هـ