استعرض المقال السابق تقرير التوقعات البيئية العالمية الرابع (جيو 4) الذي أعده برنامج الأمم المتحدة للبيئة وصدر في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والذي يعتبر من أكثر التقارير شمولية وموثوقية في تقويمه الوضع الحالي للبيئة على مستوى العالم ومناطقه والمرجع الرئيسي لتحليل القضايا البيئية التي يواجهها العالم حاليا ومستقبلا، وتم استعراض أهم ما جاء في الفصول الثلاثة الأولى من التقرير، وهي «البيئة من أجل التنمية»، «الغلاف الجوي»، و «الأراضي».
يستعرض هذا المقال والمقال القادم الفصل المتعلق بـ «المياه» وبيئاتها الإيكولوجية المالحة والعذبة، ويناقش الكثير من القضايا التي تبعث على القلق ويركز على قضايا التغير المناخي، واستخدامات الإنسان للمياه والبيئات المائية الحيوية، وصيد الأسماك الجائر المستمر بصفتها قضايا تؤثر على المياه والموارد المائية في العالم وتؤثر على رفاهية البشر وتحقيق أهداف الألفية الإنمائية.
يؤكد التقرير أن ظاهرة تغير المناخ وزيادة درجة حرارة سطح الأرض قد أصبحت أمرا لا لبس فيه ومقرونة بالكثير من الأدلة والشواهد، وأن ذلك سيكون له تأثيرات على دورة المياه العالمية؛ ما سيهدد رفاهية البشر وصحة الأنظمة الإيكولوجية المائية. ويشير إلى أهمية الدور الرئيسي الذي تقوم به مياه البحار والمحيطات في تنظيم المناخ وامتصاص كميات هائلة من غازات ظاهرة الدفيئة، إلا أن التغيرات التي تحدث لهذه الكتل المائية حاليا وارتفاع درجة حرارة مياهها - الذي يصل إلى 2.5 ضعف مقارنة بالارتفاع العام لمتوسط درجة حرارة سطح الأرض - قد أثرت على درجة حرارة الأقطاب الجليدية، وملوحة مياه المحيطات، وأنماط تساقط الأمطار، وزادت معدل التقلبات المناخية الحادة للمناخ مثل الجفاف والفيضانات والأعاصير.
ويشير التقرير إلى أن احترار نظام المناخ العالمي أدى إلى استمرار ذوبان الغطاء الجليدي في غرينلاند في القطب المتجمد الشمالي وانحساره وكذلك انخفاض غطاء الجليد البحري القطبي وكثافته بشكل كبير في السنوات العشرين الماضية؛ بسبب ذوبان الجليد في هذه المناطق بمعدلات تفوق معدلات تكوّنه. كما لوحظت في السنوات العشرين الماضية الكثير من التقلبات المناخية الحادة في الكثير من مناطق العالم، فلقد شهدت منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط ومناطقُ جنوب قارة إفريقيا وبعض مناطق جنوب آسيا فترات جفاف شديدة لفترات زمنية طويلة، كما يعزى انخفاض معدل سقوط الأمطار والجفاف المدمر منذ السبعينات من القرن الماضي في منطقة الساحل الإفريقية، الممتدة من المحيط الأطلسي إلى القرن الإفريقي، إلى تغير درجات الحرارة سطح المياه في المحيطات. ومن ناحية أخرى، شهدت الأجزاء الشرقية من أميركا الشمالية والجنوبية وشمالي أوروبا وشمالي آسيا ووسطها زيادة في معدلات سقوط الأمطار وأعاصيرَ مدمرة.
ويتوقع التقرير استمرار ارتفاع مستوى سطح البحر الذي يسببه تغير المناخ في المستقبل بتبعات هائلة ومكلفة على الإنسان؛ إذ يعيش أكثر من 60 في المئة من سكان العالم في مسافة تقل عن 100 كيلومتر من الساحل، وسيضطر هؤلاء مع ارتفاع مستوى سطح البحر وغمر السواحل إلى الهجرة والانتقال إلى أماكنَ أخرى، كما ستكون كلف مجابهة غمر البحر للمناطق الساحلية والحفاظ على البنى التحتية القائمة ذات عالية. من ناحية أخرى، من المتوقع أن تؤدي زيادة درجة حمضية المحيطات في العالم؛ بسبب زيادة نسب ثاني أكسيد الكربون في الجو إلى تغييرات في شبكة الغذاء البحرية؛ ما قد يؤدي إلى تأثيرات على الأمن الغذائي العالمي.
وفي مجال الثروة السمكية، يبيّن التقرير أن الأرصدة الطبيعية للثروة السمكية في العالم في تناقص مستمر؛ بسبب الكثير من الضغوط غير القابلة للاستدامة مثل الصيد الجائر والاستنزاف وتدهور الموائل البحرية بالإضافة إلى تغير المناخ، إضافة إلى تبيانه أن المحافظة على مستوى كميات الأسماك التي يتم اصطيادها حاليا يتم بشكل أساسي من خلال التوغل في الصيد في أماكنَ بعيدة جدا عن الشاطئ وفي أعماق المحيطات. ولقد سمح بذلك التقدم التقني في أساليب صيد الأسماك المستخدمة من قِبل أساطيل صيد الأسماك. ويحذر من أن ذلك يؤدي إلى التأثير على المناطق التي تضع الأسماك بيضها فيها وتمثّل المناطق الحاضنة للأسماك؛ ما يؤثر على المناطق المنتجة للأسماك وتزويدها للمناطق الشاطئية، ويسبب تدميرا لموائل بعض الأجناس وتناقصا في أعدادها بشكل سريع مثل الثدييات البحرية والسلاحف، بشكل متزايد تدريجيا في أسفل سلسة الغذاء. كما يؤدي استخدام عِدد الصيد المدمرة مثل التجريف وتفجير الديناميت والسم في الصيد إلى تهديد إنتاجية البيئات الطبيعية للأسماك، وخصوصا التجريف الذي لا يدمر موائل الأحياء القاعية فقط ويقضي عليها بل يصطاد كميات كبيرة من الأسماك غير المستهدفة التي تم تقديرها عالميا بنحو 7.3 ملايين طن في العام يتم رميها من دون الاستفادة منها.
ويشير التقرير إلى أن النمو السكاني وزيادة مستوى الدخل قد أديا إلى رفع إنتاج الأسماك العالمي من 95 مليون طن إلى 141 مليونا في السنوات العشرين الماضية، أي بزيادة تصل إلى 50 في المئة، وإلى أن الحوافز المقدمة من الحكومات للصيد قد رفعت طاقة الصيد بدرجات مفرطة بلغت 250 في المئة أعلى من الطاقة المستدامة للصيد من محيطات العالم، وإلى أن من المتوقع أن يزداد الطلب على الأسماك لتلبية الطلب المتنامي للسكان بنحو 1.5 في المئة سنويا في العقود المقبلة، وإلى أن تلبية هذا الطلب سيمثل تحديا كبيرا، ومن المتوقع كذلك أن يستمر النمو في صناعة الاستزراع السمكي لتلبية الطلب.
ومن الأمور التي يثيرها التقرير في مجال الثروة السمكية قضية الزيادة المستمرة لاستغلال مصائد أسماك الدول النامية الفقيرة وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية عليها من قِبل الدول المتقدمة، ويضرب مثلا على الوضع في غرب إفريقيا حيث زاد استغلال مصائد الأسماك التابعة إلى المياه الإقليمية لدول غرب إفريقيا بواسطة الأساطيل التابعة إلى روسيا وآسيا والاتحاد الأوروبي بنحو 6 أضعاف في الفترة من 1960 إلى 1990، وينوه إلى أن القيمة المدفوعة للدول الإفريقية المعنية للحصول على رخص الصيد تبلغ 7.5 في المئة فقط من قيمة الأسماك عند تصنيعها وبيعها في الدول المتقدمة المستغلة لهذه المصائد، والتي عادة ما تقوم الدول الإفريقية نفسها باستيرادها من هذه الدول!
ويثير في ناحية متصلة من المسألة أنه بسبب الصيد الجائر في هذه المصائد الإفريقية فقد ترك صيادو الأسماك في دول غرب إفريقيا مهنتهم التي يتقنونها وورثوها أبا عن جد وهي جزء من تراثهم ويعتمدون عليها في حياتهم ورزقهم، وبدأوا الهجرة إلى بعض الدول التي تستغل مواردهم السمكية ليعملوا هناك في أعمال متدنية ليست لها علاقة بحرفتهم الأصلية. وقد يكون من الأجدر أن تقوم هذه الدول النامية بتأهيل وبناء قدرات مواطنيها وصياديها وتزويدهم بالتقنيات اللازمة لاستغلال ثرواتهم الطبيعية وتصديرها للحصول على قيمة مضافة أعلى من صيد الأسماك لتحسين مستوى معيشتهم والمساهمة في تنميتهم الاجتماعية والاقتصادية.
ويذكر التقرير أن الكثير من الدول المتضررة قد قامت بجهود عدة لوقف التدهور في ثروتها السمكية وشملت الاستجابات العالمية لوقف هذا التدهور تطبيق نظم إدارة مبنية على النظم الإيكولوجية، وإنشاء المحميات البحرية، وإعلان بعض البحار مناطقَ خاصة، وتنظيم صيد الأسماك ووضع التشريعات، وحوافزَ اقتصادية وسوقية، والتوجه نحو الاستزراع السمكي، بالإضافة إلى إعادة تأهيل بيئات الأنظمة الإيكولوجية المتدهورة لديها.
يستكمل المقال القادم الجزء المتعلق بالمياه العذبة في فصل المياه.
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1885 - السبت 03 نوفمبر 2007م الموافق 22 شوال 1428هـ