في دلالة على مستوى الانحطاط في المنطق الدولي، يُطالعنا الرئيس الفرنسي ساركوزي بمقولته الفريدة أنّ قيام دولة «إسرائيل» معجزة والحدث الأهمّ في القرن العشرين.
لقد كنّا نتصوّر أنّ فرنسا لا تزال وفيّة للمبادئ التي انطلقت بها ثورتها، في تأكيد الحرّية الإنسانيّة للشعوب، ورفض المجازر الوحشيّة التي يقوم بها شعب ظالمٌ ضدّ شعبٍ مظلوم، وكنّا نحسب أنّ هذه الدولة الأوروبّية قد ابتعدت عن الالتزام باحتلال الشعوب، ومصادرة حرّياتها، ممّا لاحظناه في رفضها الاحتلال الأميركي للعراق... لأنّ «إسرائيل» قامت على أساس تشريد شعبٍ من أرضه، بفعل المجازر الوحشيّة التي قام بها اليهود تحت إشراف الاحتلال البريطاني.
وإنّنا نسأل هذا الرئيس: هل بات تدمير الشعوب وتشريدها من أوطانها هو الحادث الأهمّ في القرن العشرين؟! وهل أنّ المعاجز تحوّلت إلى أمثال هذه الأوضاع المدمّرة لحقوق الإنسان بما لا يتصوّره عقل أو وجدان؟!
ثمّ نتساءل: لماذا لم تمنح أوروبا ـ ومنها فرنسا ـ اليهود دولة على أراضيها ما دامت هي التي تُحمّل نفسها مسئولية مآسيه في عهد النازيّة وغيرها؟ ولماذا يُحمّل الشعب الفلسطيني، والعرب والمسلمون، مسئولية وحشيّة أوروبا ضدّ اليهود؟
ومن جهة أخرى، فإنّ الجميع يعرفون أنّ القنبلة النووية الإسرائيليّة كانت بفعل المساعدة الفرنسيّة، وبعض الدول الأوروبّية امتدادا إلى أميركا، وإذا كانوا يتحدّثون عن أن هذه القنبلة لا تمثّل خطرا على المنطقة والعالم، فإنّهم يعرفون أنّ هذا الكيان الغاصب قد استغلّ كلّ قوّته العسكريّة في تهديد كلّ دول المنطقة، ولا سيّما لبنان؛ حتّى أن الجنرال ديغول كان قد قاطع «إسرائيل» بعدما تأكّد له أنّها كانت البادئة بعدوان 1967.
لقد أعطت الإدارات الغربيّة القوّة الضاربة لـ «إسرائيل»؛ لتكون الدولة الأقوى في المنطقة كلّها؛ وهذا ما عرفه العالم في العدوان الإسرائيلي المتكرّر على لبنان؛ بدءا من العام 1982 الذي احتُلّت فيه العاصمة بيروت، وصولا إلى عدوان تمّوز 2006، الذي قتل المئات من المدنيّين وارتكب المجازر ودمّر البنى التحتيّة، وكانت فرنسا، إلى جانب أميركا وبريطانيا، تخطّط لمساندة هذا العدوان بتأييد القرارات الظالمة للبنان في مجلس الأمن.
نعم، ربّما يكون من المعجزة، ومن أهمّ حوادث القرن العشرين، أن يقوم هذا الكيان على أساس القتل والنهب والتدمير والتشريد، ثمّ تتحرّك السياسة العالميّة في أقصى درجات الانحطاط الإنساني، من خلال القرارات الدوليّة التي تضرب بها «إسرائيل» كلّ يوم عرض الجدار، وشرعةِ حقوق الإنسان التي باتت حبرا على ورق، ومن خلال السكوت المطبق عن معاناة النساء والأطفال والشيوخ على معابر الموت، والمجازر التي تُرتكب بالمدنيّين بعقل بارد.
ومن جهة أخرى، وفي ظلّ انتظار العرب والسلطة الفلسطينيّة المؤتمر الذي دعا إليه الرئيس بوش، والذي لن يحقّق اتّفاقا أو اختراقا تاريخيّا في عمليّة السلام، كما يصرّح رئيس وزراء العدوّ، لا تزال «إسرائيل» تحرّك عدوانها في الضفّة الغربيّة وغزّة، حيث تقصف وتقتل وتدمّر وتحاصر، في أكثر من عمليّة وحشيّة ضدّ المدنيّين، وتخطّط لمصادرة الأراضي في القدس في عمليّة تطويق للعرب في المدينة المقدّسة، كما يهدّد بعض جنرالات جيش العدوّ بجولة جديدة مع لبنان؛ لاستعادة معنويّات الجيش بعد الهزيمة التي واجهها في حربه مع المقاومة. وهذا ما يجب أن يفهمه بعض اللبنانيّين الذين يُراهنون على المجتمع الدولي، والقرار 1701، إذ لم تقرّر الأمم المتّحدة حتّى الآن وقف إطلاق النار.
وأمام كلّ ذلك، فإنّ على العرب أن يدركوا أن السلام مع كيان العدوّ ليس له أيّ واقعيّة، كما أنّ عليهم أن يعوا أهمّية المقاومة في صدّها للعدوان الإسرائيلي، كما نناشد الفلسطينيّين، ولاسيّما الذين يحملون عنوانا إسلاميّا، أن يتّقوا الله في عباده وبلاده، ويُسقطوا الفتنة فيما بينهم ممّا لا يستفيد منه إلا العدوّ الذي تتحرّك مخابراته من فتنة إلى فتنة؛ لتبقى له السيطرة على الواقع كلّه، ولا يبقى هناك مجال للمقاومة التي قد تنشغل بالخلافات الداخليّة.
وفي مشهدٍ آخر، لا يزال نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، يهدّد إيران بعواقب وخيمة في حال رفضها تغيير سياستها النووية والإقليميّة، منتقدا دورها العراقي والإقليمي المعيق لما يسمّى عمليّة السلام.
ونحن نقول لهذا الرجل الحاقد على العرب والمسلمين، لماذا لا يتحدّث عن السياسة الحاليّة لإدارته، في خططها ضدّ السلام العادل للشعوب، وفي مصادرتها للحرّيات الإنسانيّة السياسية والاقتصاديّة من أجل مصالحها الاستراتيجية؟
إنّنا ننصح الإدارة الأميركيّة أن تحترم الشعوب لتحصل على صداقتها، وأن تلك الشعوب لا تقبل الموت والقهر والذُلّ؛ وقد أثبتت التجربة أنّها مستعدّة لإرباك هذه الإدارة في سياستها الخرقاء، تماما كما في العراق وأفغانستان، وحتّى في لبنان.
وعلى صعيدٍ آخر، لا يزال لبنان يعيش الجدل السياسي، في اللقاءات المتنوّعة بين فريق وفريق، في الدائرة المسيحيّة أو الإسلاميّة، ويتحدّث البعض في ذلك عن الانفراج المنتظر وعن التفاؤل الحذر، في الوقت الذي يُثير بعض الذين لا يريدون للأزمة أن تجد حلاّ توافقيّا واقعيّا بعض التعقيدات، ويتّخذون لأنفسهم موقعا قضائيّا، في الاتهامات التي تتحوّل إلى أحكام ارتجاليّة أو انفعاليّة، في عمليّة استعادة للتاريخ الدامي الذي لم يسلم منه أحد.
إنّ المشكلة هي أنّ لبنان غارق في الضباب الأسود الذي يغطّي ضوء الشمس، وفي الغيوم الملبّدة التي تحجب عن الناس وضوح الرؤية، وفي مشكلاته الاقتصاديّة والسياسية ومخاوفه الأمنيّة، وفي إثاراته المذهبيّة من خلال الذين يخطّطون للفتنة؛ لأنّ القضيّة هي أنّ هذا البلد الصغير يُراد له أن يكون الساحة التي تتحرّك فيها طموحات الأشخاص؛ لتنمية زعاماتهم وتضخيم ثرواتهم وحشد جماعاتهم، ممّن يتحرّكون بالعصبيّة الغرائزيّة، ولا ينفتحون على العقل الهادئ الذي يركّز الاستقرار ويوحي بالوحدة الوطنيّة ويدعو إلى لقاء الجميع على مصالح الشعب، في خطّ المواطنة التي تنفتح على الرحمة والمحبّة والإيمان
إنّنا ندعو إلى القراءة في خريطة المنطقة، والصراعات فيها، بدلا من القراءة في خرائط المصالح الفئويّة والشخصيّة الضيٌقة؛ وبذلك يُمكن التوصّل إلى توافق عمليّ واقعيّ أكثر.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1883 - الخميس 01 نوفمبر 2007م الموافق 20 شوال 1428هـ