سيطرت المصالح التجارية في الكثير من المجتمعات على المهرجانات الدينية والأوقات المحددة للتأمل الروحاني وأسيء تمثيلها من قبل العقائديين. كما تراجعت رسالتها في التأمل الروحاني والتشارك مع الله تعالى أمام الضرورات الدنيوية الزائلة من الطمع والاستحواذ والتطلع إلى الانتصارات الزائفة. وقد تسارعت هذه العملية في منطقتنا نتيجة لنزاعات دنيوية جدا وأحقاد طائفية صنعتها يد الإنسان.
بدأ كل من شهر رمضان المبارك الإسلامي وشهر تشري اليهودي في اليوم نفسه هذه السنة، وللسنة الثالثة بشكل متتالٍ. يتوجب على متطلباتي الشخصية في الإيمان في هذا الشهر الفضيل أن تتجاوب مع أتباع الديانة اليهودية وبالطبع المسيحية، ذوي العقلية الروحانية. تشكل عملية الامتناع عن الطعام والشراب خلال ساعات النهار واتباع الدقة في الصلاة خمس مرات يوميا، تشكل تحرير أنفسنا من الماديات وفحص علاقتنا الحقيقية مع الله تعالى ومع أخوتنا من بني البشر.
نرتبط جميعا كمسلمين ويهود ومسيحيين بإرث مشترك من الكفاح الروحاني تحت إله واحد. تذكرنا مصادفة شهري رمضان وتشري أننا نشترك في آليات متماثلة للتجديد الروحاني. ولكننا لسوء الحظ نشترك كذلك في خطيئة الابتعاد عن الأساسيات الحقيقية. ومن تناقضات الأمر أنه في محاولتهم الحفاظ على عادات وتقاليد حضارتنا المشتركة يقوم البعض بتقويض الأركان ذاتها التي بنيت عليها هذه العادات والتقاليد. لقد فقد أبناء إبراهيم سبيلهم.
في السنوات الأولى لهذه الألفية أوجد الإنسان عالما يحتفي فيه السياسيون الذين يسعون إلى المصلحة الذاتية ومجموعات الرعاع الغاضبة بالخلافات والشقاقات. في عصر التأويل الإعلامي هذا أصبحنا أقل عرضة لأن نصدق أن تواريخنا تشترك في أكثر من الكفاح والخلاف. إلا أن تقاليدنا المشتركة من التجدد الروحاني تستطيع أن تعلمنا الكثير. فكل عقيدة تحتفي بمفهوم «الحقيقة» في الإيمان. ولكن مع كل مؤمن غاضب لم يستغل الوقت لتنشئة روحه واختبار تراثه الروحاني، يجري الحد من قيمة الحقيقة وإقرار العنف وإجازته. يشكل العنف والإيمان متناقضين كريهين بنظر اليهود والمسلمين، وقد يكون العنف الذي يبرره سوء تمثيل الإيمان أكبر تهديد للسلام في منطقتنا وفي عالمنا.
توفر نهاية رمضان وتشري فرصة إصلاح الكثير من الأخطاء داخل مجتمعاتنا وبينها. ويمكن مقارنة عملية التوبة في الإسلام مع «tshuva» أو الندم والتوبة في اليهودية. ويفترض علينا كأتباع لدياناتنا الانخراط في هذه العملية على المستويين الشخصي والجماعي، وتجديد التزامنا بالأديان ذات الجذور المشتركة. وإذا ارتأينا ألا نعاني من خلافات وصدوع متزايدة بين ثقافاتنا وتقاليدنا المختلفة، توجب علينا إعادة احتلال الأرض المشتركة للقيم التي نتشارك فيها ونفخر بها. ويجب أن تنطوي هذه العملية على عودة مفهوم الصالح المشترك في صنع السياسة. سيساعد تشجيع السياسات وليس السياسة، والمطالبة بقيادة ذات أخلاقيات وتغطية إعلامية عادلة والمطالبة ببرامج تعليمية تعاونية، على تجديد الروابط الروحانية واستعادة علاقة قديمة جرى تلطيخها إلى حد بعيد في الحقبة القريبة.
تتطلب إعادة «الحقيقة» في الإيمان تنازلات صعبة من النواحي كافة. ولتيسير هذه العملية الأساسية، يتوجب علينا أن نتعلم ما يخص دياناتنا وأن نبحث عن معايير مشتركة. علينا أن نعلّم أبناءنا إرثهم الحقيقي وأن نوفر لهم أدوات الفهم الضرورية للفصل بين الإيمان والسياسة. هذا هو الأسلوب الوحيد الذي يمكن من خلاله أن نعيش عبر حاضرنا وواقع النزاع الرهيب وأن نبني مستقبلا من الحوار والتفاهم والاحترام. من أجل ذلك أهيب بالمسلمين أن يفصلوا أعمال دولة «إسرائيل» عن مطالب الدين اليهودي. علينا أن ندرك جميعا حق دين مقرّب كما طلب منا الرسول الكريم (ص) وصحابته الأولين. يتوجب علينا أن نتذكر تلك القرون المبكرة من التعايش والاحترام وبناء المجتمعين بشكل موحّد. بالمثل، يتوجب على الكثير من اليهود مساءلة اعتقادهم بأن «جينا إرهابيا» يوجد بين سكان غزة والضفة الغربية. وحتى يتسنى لهم قبول ذلك، عليهم أن يصدقوا كذلك أن هذا العنف المتوالد داخليا يؤثر على اليهود وبالتأكيد على المسيحيين، لأننا جميعا نشترك في حمض نووي مشترك من الإيمان. إلا أنني لا أؤمن أن الله تعالى خلق الإنسان بنقص أساسي هدّام كهذا، وكذلك لا أؤمن أن كتبه السماوية، أي منها يتغاضى عن سلوك كهذا. كأبناء عمومة في الإيمان، لا يفهم الكثيرون منا بعضنا بعضا، ولكننا نعرف بعضنا بشكل جيد جدا لمسامحة القسوة المستمرة. أنا أؤمن أنه يتوجب على كل المؤمنين من المعتقدات كافة أن يسمحوا للتبجيل المشترك للحقيقة أن يرشد أفعالهم. ويجري التأكيد على أهمية السلام للفرد مرات عدة في التوراة. ينصح المزمور 34 على سبيل المثال بأن الطريق إلى حياة طويلة وسعادة هو من خلال «السعي إلى السلام بكل قلوبنا» (المزمور 34:14). وبالمثل يعطي الإسلام القيمة الكبرى للتناغم الاجتماعي، فحتى اسم الدين، الذي يبرز الخضوع لمشيئة الله تعالى، مستنبط من كلمة «السلام» العربية. ولا شك أن السخرية التي ولدتها ثلاثة أجيال من النزاع ستثير ازدراء أعضاء كل من مجتمعي ديانتينا الذين يقرأون ذلك. ولكن يتوجب علينا أن نذكر أنفسنا أن الحقائق الأبدية لدياناتنا قوية بشكل كافٍ لتتسامى عن أعمال هؤلاء الذين أساءوا اتباع معتقداتهم. يتوجب على اليهود والمسلمين، ونحن نقترب من نهاية الشهر التأملي لكل منا، أن يتذكروا جذورهم الروحانية المشتركة وأن يدركوا حماقة العقيدة المسيّسة. لا يملك أي من مجتمعاتنا الدينية حكرا على الحقيقة، إلا أنه يجب عدم إخضاع قيم مشتركة معينة، بما فيها البحث الصادق عن الحقيقة نفسها لنزوات سياسية عشوائية. فقدان رؤية هذا الأمر الضروري مساوٍ لدعوة الغضب والحقد إلى وسط العلاقات الإنسانية. نسيان الأمور الإلزامية المشتركة للبحث عن السلام داخل أنفسنا وبين مجتمعاتنا الدينية هو بمثابة إنكار لأركان عقائدنا.
إقرأ أيضا لـ "الحسن بن طلال"العدد 1881 - الثلثاء 30 أكتوبر 2007م الموافق 18 شوال 1428هـ