الصفح مستحيل، هذا ما يقوله جاك دريدا. وبحسب حنا أرندت فإنّ العودة إلى الوراء مستحيلة. وبإزاء هذين المستحيلين يبقى النسيان هو الخلاص الممكن، وهو الأفق الوحيد المفتوح أمام البشر من أجل التعايش بأخلاق التسامح والسماحة والسخاء والرحمة التي تقع على النقيض من «استعمال الذاكرة» واستغلالها أيديولوجيا وسياسيا، وعلى النقيض كذلك من الأحقاد وفعل الانتقام والرد على الشرّ بالشرّ. إذا كان الصفح ممكنا فإنه لا يتجلّى إلاّ في صورة الرد على الشرّ بالخير، ولهذا السبب يعد الصفح فضيلة، في حين أنّ النسيان يتأسس على تجاوز شرّ الماضي وخيره، وهو غير معني بالردّ أساسا لا بالخير ولا بالشر. وعندئذٍ يصبح النسيان، كما بشّر به نيتشه، من علامات القوة ودلائل العافية. وبحسب إرنست رينان فإنّ «النسيان، بل الخطأ التاريخي، عامل أساسي لخلق الأمّة» (ما هي الأمّة؟، مجلة نزوى العُمانية، ع: 34، 2003، ص67)، وخصوصا إذا كانت هذه الأمّة مؤلّفة من أعضاء يحمل كلّ منهم ذاكرته الخاصة المثقلة بالمظالم والجرائم والمذابح والحروب الأهلية. وبحسب رينان أيضا فإنّ «كلّ القوميات نسيت أشياء كثيرة»، وأنّ «جوهر الأمّة يكمن في وجود الكثير من الأشياء المشتركة بين سائر أفرادها، وبأنّ سائر هؤلاء الأفراد قد نسوا الكثير من الأشياء».
يقال إنّ معرفة التاريخ تنطوي على مجموعة من العِبر والدروس، إلاّ أنني أتصوّر أنّ العِبرة الكبرى التي يمكن استخلاصها من هذا التاريخ هي أننا بحاجة إلى التذكير بضرورة تجاوز التاريخ وتجنّب تكراره، وكما يقال فإنّ «مَنْ يجهل التاريخ يجازف بتكراره». وتجنّب تكرار التاريخ يعني تجنّب التطابق معه، والخلاص من حضوره المطبق على الحاضر، ومن تأثيراته المشتملة على الوعي والفعل. ويكون هذا من خلال النسيان أو من خلال الذاكرة المتسمة بأخلاق السماحة والسخاء والنبل، وإلاّ فإنّه من الأفضل أنْ تبقى هذه الذاكرة ناقصة ومحدودة باستمرار. لقد كتب ناصر الخيري، وهو من أبرز المثقفين من جيل التنويريين البحرينيين في الربع الأوّل من القرن العشرين، بأنّ الوقوف عند الماضي يعني الجمود، وأنّ هذا «نذير التقهقر والانحطاط بل نذير الموت والهلاك، ومن أشدّ دلائل الموت أنْ يعيش قومٌ في هذه العصور بعقول وعادات وأخلاق هي أجدر بأهل العصور الماضية والقرون الخالية» (قلائد النحرينِ في تاريخ البحرين، ص 4ق-5ق). فإذا كان التاريخ مطبقا على الحاضر، فإنه بذلك يتطابق معه، وعندئذٍ تختفي الفواصل بين التاريخ والحاضر، ويصبح أحياء اليوم هم أموات الأمس.
بعد كلّ هذا هل تكون العِبرة من معرفة التاريخ هي أننا نتذكّر من أجل أنْ نفهم الماضي، وأننا نفهمه من أجل أنْ نكون أكثر قدرة على نسيانه وتركه يرقد بسلام؟ وهل علينا أنْ نلتزم بحكمة رينان وبندكت أندرسون التي تنصّ على أنّه من الضروري «أنْ نذكّر المرء بشيء يجب نسيانه حالا» (الجماعات المتخيّلة، ص202) من أجل التخلّص من عبء الذاكرة ومشقة الابتلاء بالتاريخ؟ وإذا كانت هذه العِبرة بعيدة المنال، فإنّه من الممكن أنْ نتذكّر، ونستمر في التذكّر والتذكير بما تم نسيانه وتجاهله، ولكن مع التذكير كذلك بأخلاقيات التذكّر، بـ «المسائل الأخلاقية التي قد تكون محتجبة خلف صخب الجدال وضجته» (تأملات حول المنفى، ص331). فالتذكّر إمّا أنْ يكون أخلاقيا ومتسما بالسماحة أو لا يكون. ومن دون هذه الأخلاق فإنّ التذكّر يكون فعلا خطرا، ويصبح الإقدام على فتح الذاكرة الجماعية المثقلة بالجروح مجازفة غير مأمونة العواقب، وبحسب رينان فإنّ «تقدم الدّراسات التاريخية ينطوي على خطورة تتهدد المواطنة. فالبحث التاريخي يسلّط الضوء، بالفعل، على وقائع العنف التي حصلت في بداية كلّ التشكيلات السياسية». وهنا بالضبط تكمن خطورة الاقتراب من التاريخ وفتح أبواب الذاكرة ونوافذها.
وإذا كان فتح الذاكرة الجماعية يتحقق من خلال العودة إلى نصوصها ومحفوظات إرشيفها، فإنني أعترف هنا بأنّ سلسلة المقالات السابقة والتي نُشِرتْ في هذا الموضع من صحيفة «الوسط» وجُمِعتْ لاحقا في كتاب «استعمالات الذاكرة: في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ»، متورّطة بالذاكرة والتذكّر، وهي مبتلاة بالتاريخ وعبئه تماما كما هو مجتمعنا، إلاّ أنّ عزاء هذه المقالات الوحيد أنّها تمارس التذكير بما تمّ نسيانه وتجاهله عن قصد وإصرار، وهي لا تغفل عن التذكير بالمسائل الأخلاقية المحتجبة خلف صخب الجدال السياسي وضجته. كما أنها سعتْ، أو هكذا أراد لها صاحبُها، إلى تحرير الذاكرة من الاستعمال الموجّه أيديولوجيا، والمنخرط في صراعات القوة، من خلال تذكير الجميع بأنّ الصراع على امتلاك القوّة يكون مدمّرا في معظم الأحوال، وحين يرتكز على الذاكرة فإنّه يكون خائنا لا محالة. ويتطلب هذا التذكير إعادة توجيه الذاكرة؛ لتكونَ في خدمة التوافق العام داخل الدولة، والتعايش السّمْح بين البشر أفرادا وجماعاتٍ، وكذلك من أجل إفساح المجال أمام العيش في هذا العالم بنوعٍ من الأمل في المستقبلٍ، ما دام الأمل، كما يقول والتر بنيامين، لم يُخلق إلاّ «لهؤلاء الذين لا أملَ لهم».
القرّاء الأعزاء، هذه هي المقالة الأخيرة في هذه السلسلة الطويلة؛ لأتوقف بعدها عن الكتابة الصحافية، على أمل العودة من جديد في أقرب فرصة ممكنة. كما أنّي آمل أنْ يرى كتابي «استعمالات الذاكرة» النور في أقرب فرصة.
وختاما أذكّر نفسي وأذكّر وزارة الإعلام وأذكّر الجميع، بأنّ حرية التعبير هي الأصل، أمّا أفكارنا فعرضة للنقد وقابلة للدحض والتفنيد. وكلّ عام وأنتم بنسيان سعيد أو بذاكرة مؤسسة على الخير والأمل الجميل.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1880 - الإثنين 29 أكتوبر 2007م الموافق 17 شوال 1428هـ