تناولنا في الجزء الأول من مقال سابق التقرير السنوي الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية أخيرا بشأن مدركات الفساد في 163 بلدا من بلدان العالم، وقد تركز محور هذا العام على الفساد بالجهاز القضائي، ونتابع التعليق على التقرير في الجزء الثاني من هذا المقال.
وضع البحرين في الميزان
صدرت عدة تقارير خلال العام 2006 بشأن مؤشرات اقتصادية وسياسية واجتماعية متفاوتة، فمثلا كان هناك تقدير كبير للحرية الاقتصادية التي تتمتع بها البحرين، وحرية الاستثمار والتملك العقاري، وبنية تحتية لتسهيل الاستثمار، من قِبل ستاندرد أند بور وبرامجَ كثيرة لتحفيز الشباب إلى بدء أعمالهم والتدريب والتأهيل. في المقابل، كشف تقرير شركة مكنزي الاستشارية الدولية، عن وجود قطاعات سكانية واقتصادية واسعة متخلفة في التوازي مع قطاعات اقتصادية وسكانية متقدمة ومزدهرة.
كما كشف تقرير شركة مكدرموت للمسوحات الأرضية عن أن 80 في المئة من أراضي البحرين غير مخططة وتفتقر إلى البنية الأساسية التحتية، كما كشف وزير شئون البلديات والزراعة منصور بن رجب عن أن السواحل المتاحة للجمهور لا تتعدى 3 في المئة من سواحل مجموع جزر البحرين، على حين كشف وكيل وزارة الأشغال والإسكان نبيل أبوالفتح عن أن الدولة لا تملك أكثر من أراضي مملكة البحرين.
كما أن احتكار قلة قليلة غالبية الأراضي شكل من أشكال الفساد. وتستخدم هذه الأراضي المكتسبة مجانا من الدولة مساهمة في مشروعات العمران العملاقة التي تقدر بالمليارات، ولكنها في الوقت نفسه ألحقت دمارا لا رجعة عنه بالبيئة الطبيعية من سواحلَ وخلجان ومزارعَ كما تسببت بشح كبير للأراضي المتاحة للإسكان والاستثمار من قِبل محدودي الدخل.
النفط وتبعاته
ومع الارتفاع المذهل في أسعار النفط، فقد توافر لدى الدولة فائض بمئات الملايين وحققت البحرين نموا اقتصاديا تجاوز 7 في المئة، ولكن من الملاحظ أنه ترافق مع ارتفاع هائل في أسعار الأراضي التي تملكها القلة، وتضخم مرتفع، وبطالة في أوساط الشباب وخريجي الجامعات والمعاهد. من هنا، إن الازدهار الاقتصادي لم ينعكس على غالبية السكان ازدهارا اقتصاديا، أي ارتفاعا فعليا في مستوى الدخل وتلبية الاحتياجات الرئيسية للمواطن وتحسين الخدمات المقدمة من قِبل الدولة، بل إنه انعكس سلبا كما تمثل في التضخم المرتفع، وارتفاع جنوني في أسعار الأراضي والمنازل، واستمرار البطالة بمعدل مرتفع في أوساط المواطنين.
إن من أهم العوامل السلبية في هذه المفارقات الخطيرة هو الفساد، إذ لا نحتاج إلى كثير من الذكاء لمعرفة أن الفساد أضحى ظاهرة متجذرة في البلاد وبدرجة أولى في جهاز الدولة ثم في القطاع الخاص وامتد في المجتمع أيضا إذ يصبح الفساد جزءا أساسيا من آلية إدارة الشئون العامة والخاصة.
حتى الآن لم تفلح محاولات البرلمان السابق في إيصال التحقيقات التي أجراها لتحديد الفاسدين ومقاضاتهم والاقتصاص منهم. كلنا يعرف ما حدث للتحقيق في صندوق التقاعد والتحقيق في خليج توبلي، والإشكال المتعلق بهبات الأراضي وملكيتها، أما تقارير هيئة الرقابة المالية للأعوام 2005 و2006 فقد انتهت إلى وجود مخالفات وليس فسادا ولا مفسدين على رغم هدر الملايين من الدنانير من موازنة الدولة.
الحكومة من ناحيتها لم تتعاون مع المجلس السابق لتوفير المعلومات بشأن الفساد وعارضت بشدة مشروع قانون الذمة المالية للوزراء وكبار المسئولين وأحبطته.
أما البرلمان الحالي فقد فشل في أول اختبار له في محاولة فتح ملف الفساد المرتبط بالملف المعروف، وفي هذه المرة تم إسقاط محاولة الاستجواب على يد إحدى الكتل بإيعاز من الحكومة طبعا. كما أن محاولة أحد النواب الحصول على معلومات من وزارة الداخلية بشأن التجنيس قد ووجهت برفض تقديم أية معلومات مكتوبة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى محاولة حصول ثالث على معلومات تتعلق بأسماء المستفيدين من هبات الأراضي وحجمها فقد رفض وزير العدل تقديم المعلومات بحجة خصوصية هذه القضايا.
موقع البرلمانات في الفساد
وتكمن المفارقة هنا في أن المملكة ستحتضن المؤتمر البرلماني العربي لمكافحة الفساد الذي تنظمه المنظمة الإقليمية العربية للبرلمانيين ضد الفساد، بالتعاون مع المنظمة الدولية البرلمانية ضد الفساد وتموله مؤسسة ويستمنستر (Westminster Foundation) المدعومة من البرلمان البريطاني.
إننا لا نشكك في نوايا المجموعة البرلمانية الخليجية في البحرين والكويت والتي هي المحرك وراء عقد الاجتماع ولكن حتى لا يتحول المؤتمر الإقليمي للبرلمانيين ضد الفساد إلى اجتماع احتفالي، فالمطلوب أن تكون هناك تقاريرُ موضوعية بشأن حجم الفساد وأبعاده في بلداننا، والإمكانات الواقعية للبرلمانات العربية في مكافحة الفساد، علما أن غالبية هذه البرلمانات هي جزء من السلطة وشريك لها لا رقيبا عليها.
أثيرت خلال الانتخابات العامة الأخيرة في كل من الكويت والبحرين اتهامات باستخدام المال بما في ذلك المال العام لإنجاح الموالين وإسقاط المعارضين، كما أثيرت في الانتخابات البحرينية استخدام الدولة نفوذها وتأثيرها في الناخبين للتصويت لصالح المترشحين الموالين، فإلى أي مدى سيعالج البرلمانيون هذه الظواهر؟
ولكن أخطر ما هو موجه إلى البرلمانين العرب، هو أن هذه المجالس هي صنيعة الحكم، أي أن غالبية أعضائها هم إما من حزب الحكم وإما من هم على وفاق مع الحكم سواء وجد نظام الأحزاب أو لم يوجد. وفي ظل وجود البرلمانات فإن حجم الفساد لم يتراجع في أجهزة الدولة، بل تدل الوقائع أن الكثير من البرلمانيين ضالعون في الفساد وهم جزء من مؤسسة الفساد، بل يجسد بعضهم أبشع صور استخدام الحصانة البرلمانية للإفلات من المحاسبة.
على امتداد سنوات لم نسمع أن برلمانا عربيا استطاع من خلال لجان التحقيق أن يحقق في قضايا فساد أو يلاحق الفاسدين، ويقدمهم إلى العدالة. وفي أحسن الأحوال يُجرى كشف قضايا فساد صغيرة، وتقديم موظفين صغار كبش فداء عن الكبار الذين لا يطولهم القانون. بَيْد أن أخطر ما في الوضع العربي، هو أن الدائرة الضيقة للحكم - التي تمتلك السلطة الفعلية - ليست بالضرورة مجلس الوزراء أو مسئولين يمكن محاسبتهم بل هم من الأسر الحاكمة أو أسر الحاكم سواء كان ملكا أو رئيس جمهورية ممن لا يمكن الاقتراب منهم ولا مساءلتهم، وتشكل ظاهرة احتكار السلطة والثروة من قِبل الدائرة الضيقة للحكم أخطر ما تواجهه بلداننا، إذ القيادات البرلمانية عادة ما تكون جزءا من الدائرة الضيقة. في هذه الحال، إن البرلمان يصبح حائط سد يحول دون التحقيق الفعلي لحالات الفساد وإساءة استغلال السلطة والوظيفة العامة.
الإرادة السياسية المفقودة
طُرِحت في السنوات الأخيرة مشروعات الإصلاح في أكثر من بلد عربي، وارتفعت الشعارات بالشفافية والنزاهة والعدالة وغيرها. ومن البدهي أن لا إصلاح من دون اجتثاث الفساد والمفسدين فالفساد والإصلاح نقيضان لا يجتمعان.
ولكن الغريب هو أن ما يدعى «مشروع إصلاح» يُجرى تنفيذه بالطاقم ذاته الذي يمارس الفساد والإفساد على امتداد عقود، وأن من هم مطلوب منهم إرساء قواعد الديمقراطية، هم من مارسوا الاستبداد على امتداد عقود؛ لذلك يعوّل الشعب على تغيير من فوق يأتي بحاكم ذي ضمير وعزم على تغيير الأمور وهو ما يعرف بـ «توافر الإرادة السياسية للتغيير والإصلاح».
وقد تبنى أكثر من حاكم عربي مشروعات الإصلاح والتغيير، وفعلا وُضِعت الآمال على هؤلاء وأظهرت الشعوب دعما قويا للحكام بتبني المشروعات الإصلاحية. ولكنها أصيبت بخيبة أمل في غالب الأحيان، بل إن - في غالب الأحيان - الحكام الجدد متلهفون للنهب أكثر من سابقيهم بحكم تزايد الثروات وانفتاح الشهية وتزايد المنتفعين. لذلك فإن الفساد في ظل أنظمة ما يدعى «الإصلاح» أكثر اتساعا وتعقيدا وتخفيا من الفساد في ظل الأطقم السابقة.
إنها لحلقةٌ مفرغةٌ من الأماني المحبطة، وهنا إن البديل هو أن تناضل النخب والجماهير من أجل الحريات العامة، بما فيها حرية الوصول إلى المعلومات ونشرها وشفافية عمل الدولة، ومشروعاتها ومسئوليها. وهنا يتوجب أن تكون هناك قوانينُ منظمةٌ مثل قانون الذمة المالية، وقانون الشفافية وحرية المعلومات. طبعا، إن الرقابة على دائرة الحكم وجهاز الدولة وأراضي الدولة وممتلكاتها يتطلب رقابة صارمة ونزيهة واحترافية.
أنشأت بعض الدول دواوينَ للرقابة المالية والإدارية، ولكن هذه الدواوين ملحقة بالحكم والسلطة التنفيذية، وتفتقد الاستقلالية والنزاهة؛ لذلك فإن دورها في الغالب كشف الفساد الصغير والمفسدين الصغار للتغطية على الفساد الكبير والمفسدين الكبار. في الدول الديمقراطية ذات الحكم الصالح، إن دواوين الرقابة الرسمية إلى جانب البرلمان والصحافة والأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني وخصوصا منظمات الشفافية والنزاهة ومناهضة التمييز وحقوق الإنسان تكمل بعضها بعضا؛ في مراقبة الدولة بمختلف سلطاتها ومؤسساتها والمجتمع بمختلف مؤسساته ورصد الفساد والفاسدين؛ لأن لا أحد فوق القانون.
ومادامت أوضاعنا على ما هي عليه من تسلط الدولة وهيمنتها، وضعف السلطة الرقابية للبرلمان، وتبعية دواوين الرقابة المالية والإدارية للسلطة التنفيذية فإن المتاح هو مؤسسات المجتمع المدني المستقلة فعلا عن الدولة والصحافة المستقلة عن نفوذ الدولة في فضح الفساد والمفسدين وإحداث تراكم بطيء يحاصر الفساد والمفسدين وإن لم يقضِ عليهم.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 1877 - الجمعة 26 أكتوبر 2007م الموافق 14 شوال 1428هـ