آخر مرة رأيت فيها رامي كنا على الشاطئ قرب مدينة غزة. كنا مجموعة من الأصدقاء نلعب في الماء، وكنت أحاول إنزال رامي تحت الماء. كان رامي رجلا كبير الحجم، وزنه ضعف وزني على الأقل، وبالطبع لم أستطع أن أزحزحه. وعندما هاجمني بدوره كان كل ما استطعت فعله حتى لا أختنق تحت الماء هو الهروب. إلا أني تمكنت من مغافلته تحت الماء وسحب رجليه ثم الهروب بعيدا.
هناك حوالي ثلاثة آلاف مسيحي يقيمون في مدينة غزة اليوم. كان رامي مديرا لمكتبة المعلمين، وهي مكتبة مسيحية في وسط مدينة غزة تبيع كتبا عن الدين المسيحي وتقدم دروسا في الحاسوب واللغة للفلسطينيين من كل أنحاء قطاع غزة. عندما كنت أزور المكتبة في مناسبات قليلة كان رامي يجلس على كرسيه المتحرك يطلق النكات. قلة هم الذين كانوا يدخلون المكتبة من دون أن يكونوا على معرفة به. يمكن لغزة أن تكون مدينة حزن ولكن رامي ذكرني دائما بالعقلية المصرية - الضحك وإطلاق النكات بغض النظر عن احباطات الحياة.
أغلق رامي مكتبته بعد ظهر أحد أيام السبت كما فعل دائما في الرابعة والنصف بعد الظهر. كان قد أخبر أخيه قبل ثلاثة أيام أنه يشعر أنه ملاحق عند عودته إلى البيت بعد العمل، ولكنه لم يعر الأمر اهتماما. بعد ساعتين من إغلاق المكتبة هاتف زوجته وأخبرها، من دون تأكيد شديد، أنه سيعود إلى البيت بعد ساعتين، وطلب منها أن لا تقلق. لم يكن باستطاعته القول أين هو أو لماذا. لم يعد رامي إلى بيته مطلقا.
بحث عنه أفراد أسرته وأصدقاؤه حتى ساعة متأخرة من الليل. في الخامسة والنصف صباح الأحد عُثر على جثته وقد ضُرِب وأطلقت رصاصة على رأسه وأخرى عبر صدره. كانت محفظته وهويته وساعة يده مختفية.
لم يُصدر أحد بيانا ولم تعلن أية مجموعة مسئوليتها عن الجريمة. هذه أول مرة في تاريخ غزة يٌخطَف فيها مسيحي ويُقتَل. المحزن أن أعمال قتل ثأرية كهذه تقع عادة وتكون لها طبيعة سياسية، ولكن ليس لأسباب دينية. في غزة، يعيش المسلمون والمسيحيون ويموتون جنبا إلى جنب، ويتشاركون بكل عنصر من عناصر الاحتلال الصهيوني وهيمنته وسيطرته، وهو واقع الحياة هناك كما يذكره معظم المقيمين هناك اليوم. لم تكن لرامي أية ارتباطات سياسية أو فئوية كما أن أسرته لم تكن طرفا في أية صراعات عائلية أو قبلية. صحيفة «الاندبندت» نقلت عن مديره قوله «لا نعرف من وراء الجريمة أو لماذا. هل كانت بسبب المال أو لأنه كان يبيع كتبا مقدسة؟».
جوهر القضية هو أن غزة هي مكان يجتاحه العنف. لقد تابع قراء مقالاتي وغيرها في موقع (PalestineChronicle.com) تعقيدات تركيبة غزة الاجتماعية والسياسية، لذلك لن أعيد مرة أخرى ما قلته مرارا من قبل. للعنف جذور معمقة هنا في الظلم والاحتلال، ولكن ما وراء ذلك، يتخذ كل فرد وكل تجمع سياسي وكل مجتمع محلّي خيار إطلاق تجربته إلى الخارج والرد على العنف بالعنف. غزة غارقة في العنف بعمق. في غزة، يصبح ضحايا سفك الدماء أحيانا سفاكي دماء. لقد خاض رامي تجربة قساوة الاحتلال واختناقات منع التجول والاجتياحات العسكرية الإسرائيلية واختراقات حاجز الصوت التي تستهدف المدنيين والقيود على السفر إلى خارج 365 كيلومترا مربعا هي مساحة قطاع غزة وصراعات الحرب الأهلية.
اختار رامي أن يرد على العنف بالضحك والحب والسلام. أتمنى لقتلة رامي القوة ليعيشوا حياة كهذه، وهذا ما أتمناه لكل فلسطيني ولد ويعيش في جحيم غزة اليوم.
*كاتب مصري/ ألماني يقيم في غزة، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1877 - الجمعة 26 أكتوبر 2007م الموافق 14 شوال 1428هـ