العدد 2274 - الأربعاء 26 نوفمبر 2008م الموافق 27 ذي القعدة 1429هـ

العراق بعد «الاتفاقية الأمنية»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

التوقيع على «الاتفاقية الأمنية» الذي تأجل إلى جلسة اليوم سيضع العراق في طور جديد من العلاقات الدولية والجوارية والإقليمية. فالتوقيع قانونيا هو إقرار ضمني بالاحتلال والنتائج التي ترتبت عن الغزو وتداعياته. ويرجح أن يعطي صك براءة للولايات المتحدة مقابل منحة سياسية تعوض القوى المتحالفة والمتعاملة والمستفيدة تلك الكوارث التي أنزلتها أميركا ببلاد الرافدين. «الاتفاقية» مكافأة للمتعاونين وهي تعطي إشارة تشجع كل القوى في الإطار الإقليمي أن تحذو خطواتهم للحصول على مكاسب مشابهة.

هذا المثال العراقي يحتمل أن يتحول إلى نموذج للتغيير السياسي في الجوار الإقليمي في حال قررت إدارة واشنطن في عهد باراك أوباما استكمال إستراتيجية التقويض. فالاتفاق يشبه نظام التعاقد بين دولة محتلة لا تتمتع بالسيادة وقوة دولية قررت في لحظة زمنية تعديل توازن وكسر معادلة وتغيير خريطة اعتمادا على مجموعات سياسية تطمح بالمشاركة في السلطة واقتسام الغنيمة. وفي هذا المعنى لن يكون العراق بعد توقيع «الاتفاقية» أفضل من قبل.

التوقيع خطوة قانونية لنقل الملف من إطاره الدولي (الأميركي) إلى إطاره المحلي (الأميركي) وخطة سياسية لترحيل الملف من عهد الرئيس جورج بوش إلى عهدة الرئيس المنتخب. والمشكلة التي اختلقتها واشنطن وقررت منفردة السير بها من دون اكتراث للقوى الدولية والإقليمية والجوارية ستتحول في عهد أوباما إلى مشكلة إدارية تضغط على البيت الأبيض سياسيا. فالرئيس المنتخب وعد الشارع (دافع الضرائب) بالانسحاب من العراق في فترة زمنية لا تتجاوز مدة 16 شهرا منذ لحظة استلامه مقاليد السلطة في 20 يناير/ كانون الثاني 2009 بينما «الاتفاقية» تشير إلى تمديد الاحتلال 36 شهرا.

هذا الفارق النسبي بين تعهد أوباما ومواد الاتفاق سيضع الإدارة الجديدة في موقع محرج سياسيا وخصوصا إذا أخذ التوقيع صفة دولية وبات يتطلب قانونيا إعادة بحث وموافقة من الطرفين على التعديل. والفارق النسبي ليس بسيطا لأنه يتطلب تغطية مالية عسكرية (موازنة حرب) إضافة إلى مسئولية معنوية تتصل باحتمال تفكك العراق رسميا إلى ثلاث دويلات وانهيار الوضع الأمني وتدهور منظومة علاقاته الإقليمية والجوارية. فهل الإدارة الأميركية في عهد أوباما ستكون مستعدة سياسيا لإقرار موازنة بالمليارات لتغطية نفقات حرب اختلقها سلفه أم أنها ستلتزم بتعهداتها الانتخابية وتنسحب قبل الفترة الزمنية التي حددتها «الاتفاقية الأمنية»؟ الاحتمال المرجح أن إدارة أوباما لا تستطيع كسر تعهدات الفترة السابقة ولكنها قد تكون مرغمة على تخفيف عدد القوات وخفض النفقات وتسريع خطط إعادة الانتشار وموضعة الاحتلال في قواعد عسكرية لحماية مواضع حساسة وغنية بالنفط.

الملف العراقي سيكون معلقا حول رقبة أوباما إلى نهاية العام 2011 ويرجح أن يعطل عليه الكثير من الوعود نظرا للتداعيات المتوقع حصولها في بلاد الرافدين في مرحلة الانتقال من فترة الاحتلال المباشر إلى فترة الاحتلال بالوكالة. والوكالة ليست بالضرورة عراقية بالكامل وإنما يحتمل أن تتشارك بها قوى إقليمية وجوارية بذريعة ضمان الأمن وحماية الحدود واقتسام النفوذ.

التنافس الإقليمي

التنافس الإقليمي/ الجواري سيكون العنوان الساخن الأبرز في ملف العراق بعد توقيع «الاتفاقية الأمنية». والتزاحم على وراثة الفراغات التي يرجح أن يتركها الاحتلال، في حال قررت إدارة أوباما الانسحاب في مايو/ أيار 2010 أو في ديسمبر/ كانون الأول 2011، سيولد توترات داخلية أمنية لن تكون بعيدة عن التلاوين والأطياف المذهبية والطائفية والعرقية (الأقوامية) والمناطقية. فالدولة العراقية (المركزية) يرجح ألا تعود إلى موقعها السابق لأن الدستور الذي صاغت إدارة الاحتلال بنوده يمنع ظهور سلطة مركزية تشد الأطراف إلى دائرة الوحدة. الدستور في مواده الراهنة يعطي ضمانات للأقاليم ويعزز سلطات الإدارات المحلية ويحرم الدولة الكثير من الصلاحيات التي تمنحها ذاك الهامش المطلوب للتدخل لمنع الانقسام أو الانفصال. وفي حال العراق بعد الاحتلال تبدو الدولة المركزية الغائب الأكبر عن المشهد السياسي بينما أخذت الطوائف والمذاهب والأقوام والقبائل دورها في حراسة المناطق والمحافظات التي اكتسبت بفعل تقادم الوقت صفة الأقاليم. وغياب الدولة في بلد تتنازعه قوى محلية مدعومة من الجوار يعني توسيع قاعدة التدخل الإقليمي لتعبئة الفراغ الجغرافي/ الأمني. والفراغ في بلد طائفي/ مذهبي يعني أيضا تشجيع القوى المحلية على إعادة تأسيس بدائل محكومة باللون المذهبي والطائفي أو الأقوامي كما هو حال شمال العراق الآن.

ملف بلاد الرافدين لن يستقر كما هو واضح من الصورة الميدانية بعد التوقيع على «الاتفاقية الأمنية» ويرجح أن تنفلش أوراقه إقليميا في حال قررت إدارة واشنطن إعادة الانتشار وموضعة قوات الاحتلال في أمكنة حساسة. فالتجميع يعني عسكريا تفريغ مناطق وتركها مرهونة لتنافس القوى المحلية. والقوى المحلية لا تستطيع الضبط من دون دعم جواري وتغطية إقليمية. والأطراف المحيطة بالعراق لا تستطيع بدورها توسيع إطار التدخل من دون رغبة محلية. وهكذا تصبح بلاد الرافدين عرضة للمناورات الداخلية والتجاذبات الأهلية/ الإقليمية ما يعطل إمكانات إعادة توحيدها بقيادة دولة مركزية مستقلة وذات سيادة ومعترف بها في الهيئات الأممية.

احتمال تشرذم بلاد الرافدين إلى «عراقات» يبدو هو العامل الأقوى في مشهد الصورة. فالشمال الذي تديره حكومة كردية محلية يتجه نحو تعزيز عناصر الانفصال (الاستقلال) عن المركز وتوسيع صلاحيات الأقليم الاقتصادية (نفط واستثمارات) والأمنية (قوات شرطة) والدفاعية (جيش) والمالية (جمارك وموازنة). والجنوب الذي تتحكم بموارده إدارة محلية تتجه نحو مطالبة بغداد الاعتراف بالأقليم تحت سقف صلاحيات خاصة تعزز الاستقلال (الانفصال) ضمن مواصفات تشبه تلك الامتيازات التي تتمتع بها محافظات الشمال.

حتى المناطق المختلطة طائفيا ومذهبيا تحولت خلال فترة الاحتلال والتقويض وتفكيك العلاقات الأهلية إلى خطوط تماس تفصل الأحياء والمناطق وتعزلها عن التواصل والتفاعل. بغداد مثلا انشطرت إلى دائرتين مذهبيتين تتوسطهما «المنطقة الخضراء» حتى الآن. والمحافظات التي تحيط بالعاصمة وتمتد إلى الغرب أصبحت بعد الاحتلال مناطق متهالكة اقتصاديا واجتماعيا ومفرغة من التنوع الطائفي/ المذهبي الذي كانت عليه قبل الغزو الأميركي. وهذه المحافظات التي تلقت الضربات العنيفة من الاحتلال بذريعة ملاحقة شبكات المقاومة أصبحت في موقع الأضعف بعد الانقسام الأهلي الذي عصف بها وأدى إلى نمو مواجهات قاسية بين «القاعدة» و«الصحوة».

توقيع «الاتفاقية الأمنية» ليس نهاية المطاف. والمشهد العراقي مفتوح على فصول غير منظورة سواء انسحب الاحتلال في فترة قصيرة أو طويلة. فالانسحاب في لحظة غياب الدولة يشبه الاحتلال في لحظة تقويض الدولة لأن النتيجة في الإطارين هي تغيير هوية العراق وإخراجه من الخريطة الإقليمية. ولهذا السبب الجغرافي - السياسي كرر رئيس الحكومة الإسرائيلي ايهود اولمرت أمس الأول شكره الدائم للرئيس الأميركي جورج بوش الذي ساهم في شطب العراق من معادلة القوة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2274 - الأربعاء 26 نوفمبر 2008م الموافق 27 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً