العدد 1875 - الأربعاء 24 أكتوبر 2007م الموافق 12 شوال 1428هـ

تعارضات ساركوزي

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

منذ دخوله قصر الإليزيه أطلق الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إشارات متعارضة في سياساته الداخلية والأوروبية و «الشرق أوسطية» والدولية. حتى الآن يمكن القول إنه نجح في إنجاز طلاقين: الأول طلاقه من زوجته بعد 11 سنة من الارتباط القلق والمتوتر. والثاني طلاقه من سياسة الرئيس السابق جاك شيراك.

الطلاقان الزوجي والسياسي تمّا بهدوء ومن دون اضطرابات. فالأول سار بالتفاهم مع الزوجة والثاني اتبع خطوات لا تثير الذعر وإنما جاء في سياق انفتاح محدود على اتجاهات متعارضة تمثلت في معظمها في حكومته الأولى.

تشكيل الحكومة الأولى ساهم في تخفيف القلق وأعطى إشارة أن الرئيس الجديد لا ينوي الانقلاب بقدر ما يريد التغيير. والتغيير الهادئ الذي بدأ يضم وزراء من تيارات الوسط الليبرالي واليساري وأنصار البيئة والمجموعات الأهلية الملونة أعطى ضمانات بوجود خطة اجتماعية تريد فتح الملفات (حقوق المهاجرين، الضمانات الصحية والتربوية، والمساعدات الاجتماعية) باتجاه الحد من تدخل الدولة وترك الحرية للسوق وتجاذباتها التي لن تكون دائما لمصلحة العمال والمنتجين.

سياسة ساركوزي الداخلية بدأت تثير مخاوف النقابات العمالية والمؤسسات التي ترعى حقوق القطاع العام وتقدم المساعدات وتؤمّن التغطيات للعاطلين عن العمل أو للمطرودين من وظائفهم. ولكن هذه السياسة الليبرالية لم تبلغ درجة التطرف الرأسمالي التي تتبعها الولايات المتحدة في التعامل مع القطاعات المنتجة والشركات الاحتكارية الكبرى. فالرئيس الجديد يريد أن يخفف من الأعباء المالية التي ترهق خزينة الدولة ويتحفظ في اتخاذ خطوات متسرعة حتى لا تنقلب النقابات والأحزاب اليسارية والاشتراكية عليه في مرحلة لايزال يبحث عن بدائلَ تساعده على توضيح توجهاته الاجتماعية وترسخ مواقعه في مواجهة عواصفَ متوقعة.

احتمال التصادم الداخلي مسألة واردة ولكنها مؤجلة مؤقتا بانتظار أن تتبلور التوجهات الساركوزية في خطوطها النهائية وهي كما يبدو تريد التقليل من دور «دولة الرعاية» التدخلي في ضبط التوازن بين حركة الرأسمال وموقع قوى الإنتاج.

الطلاق الساركوزي مع المرحلة الشيراكية لا يقتصر على الجانب الاجتماعي الداخلي وإنما يتمظهر بشكل أوضحَ في الزوايا الأوروبية والدولية وملفات «الشرق الأوسط». وهذا التمظهر لم يتبلور في صيغ نهائية ولكنه أخذ يرسل إشارات متعارضة على أكثر من صعيد.

دوليا يبدو ساركوزي أقرب إلى تأييد السياسة الأميركية ويميل إلى مناصرة توجهات الولايات المتحدة بأسلوب أوضحَ من تلك الملابسات والإزعاجات والاحتكاكات التي طغت على العلاقات الأميركية - الفرنسية في عهد شيراك. فالرئيس الجديد أقرب إلى إدارة واشنطن من إدارة الاتحاد الأوروبي في بروكسل وهو يفضل بناء علاقات جيدة مع رئيس يوالي تيار «المحافظين الجدد» على تحسين علاقاته مع ألمانيا وبريطانيا. والتشدد الذي ظهر في تصريحات ساركوزي في أكثر من ملف جاء ليصب في مصلحة السياسة الأميركية الدولية حتى لو كانت تلك المصلحة تتعارض مع التوجهات الأوروبية.

سياسة ساركوزي المتعارضة في تعاملها مع الملفات يمكن ملاحظتها على أكثر من صعيد. فالرئيس الجديد يطرح فكرة «المتوسطية» ودعا إلى تجديدها أو تنشيطها في مختلف المجالات. وهذه الفكرة ليست جديدة ولكنها طُرِحت في عهد ساركوزي وكأنها ذاك البديل المتوازي للاتحاد الأوروبي، وهذا ما أثار قلق دول الشمال التي لا تقع على حوض البحر المتوسط.

ايديولوجيا المتوسطية

فكرة «المتوسطية» ليست بالضرورة مضادة للأوروبية ولكنها في المعنى الجغرافي/ السياسي تعطي قوة إضافية لفرنسا في إطار توازنها الدولي مع دول الشمال الأطلسية. فرنسا متوسطية/ أطلسية كذلك إسبانيا بينما إيطاليا متوسطية فقط. مقابل هذا الموقع الجغرافي الثنائي تقع ألمانيا في مكان ضعيف بحريا بينما بريطانيا تعتبر جزيرة تقع شرق الأطلسي.

استخدام الموقع الجغرافي وسيلة سياسية لإنتاج الأفكار والمشروعات والبدائل أقلق ألمانيا وبريطانيا وهولندا وبلجيكا ودول وسط أوروبا وشرقها. وفكرة «المتوسطية» التي كررها ساركوزي في زيارته الأخيرة للمغرب ليست بالضرورة جدية أو قابلة للتطبيق حاليا ولكنها تساعده على الضغط على أوروبا وتعزيز الدور الفرنسي في التوازن القاري بين دول الاتحاد. كذلك تساعده الفكرة على تحسين شروط التفاوض مع الولايات المتحدة خلال زيارته المقررة في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.

فكرة «المتوسطية» ايديولوجية وليست سياسية ولكنها تطلق إشارة متعارضة مع توجهات مزدوجة وتحتمل التأويل وتساهم في تعزيز موقع فرنسا الأوروبي وبالتالي إقناع الإدارة الأميركية بأهمية الاختيار إذا أرادت واشنطن المفاضلة بين دولة أوروبية وأخرى في سياستها الدولية.

دوليا يبدو ساركوزي متعارضا في توجهاته مع شيراك. فهو أكثر تطرفا في تعامله مع روسيا الاتحادية وتركيا (الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي) وإيران (الملف النووي). وهذا التعارض الذي اتخذ أحيانا صفة القيادة المتشددة أورث باريس بعض الغضب السياسي ردا على مزايدات أطلقها وزير الخارجية الفرنسي في ملفات «الدرع الصاروخي» أو «تركيا المسلمة» أو «مشروع التخصيب النووي».

التعارض المذكور جاء لمصلحة السياسة الأميركية التي تتخذ مواقفَ متشددة في التعامل مع الملفات الدولية بينما ساهم في تسجيل خطوات تراجعية أبعدت فرنسا قليلا عن التوجهات الأوروبية.

أدى هذا الطلاق الهادئ مع الشيراكية إلى تكوين تعارضات في أسلوب التعامل مع ملفات «الشرق الأوسط». فساركوزي سحب اعتراضات شيراك على الاحتلال الأميركي للعراق وهذا ما خفف من ثقل الضغط الأوروبي على الولايات المتحدة. كذلك رفع من درجة اعتراضه على «الملف النووي الإيراني» وهدد باللجوء إلى القوة العسكرية؛ ما عزز توجهات تيار «المحافظين الجدد» المتطرفة في هذا الشأن.

إلا أن ساركوزي اتبع خطوات معاكسة في الملفين السوري واللبناني. فهو سار نحو الاعتدال في هذا الاتجاه إذ لجأ إلى تخفيف الانتقادات السلبية لدمشق وانفتح على كل الأطراف اللبنانية؛ ما ساهم في خلط أوراق التحالفات وضغط سياسيا على القوى المحلية المعارضة للسياسة السورية في لبنان.

تعارضات ساركوزي كثيرة، فهي أحيانا أكثر تشددا من شيراك في ملفات (روسيا، تركيا، وإيران) وأقل تشددا في ملفات (الولايات المتحدة، العراق، وسورية). وبين الموقعين تُظهِر سياسة ساركوزي توجهات تعبّر عن تعاطف قوي مع «إسرائيل» إلى درجة وصفه إيهود أولمرت بـ «الصديق الصدوق والمخلص» مقابل توجهات غير متحمسة كثيرا لدعم لبنان.

في الخلاصات العامة تبدو تعارضات ساركوزي ليست متناقضة ولكنها تريد أن ترسل إشارات سياسية باحتمال نمو تحالف دولي جديد يقوم على ثنائية تلعب فيه فرنسا دور الطرف الذي يرجّح التوازن الأوروبي لمصلحة الولايات المتحدة. وفي حال مراجعة مواقف سيد الإليزيه من مختلف الملفات يمكن التقاط ذاك الخيط السري الذي يجمع المواقف ويربطها في حلقة الولايات المتحدة ويبعدها رويدا رويدا عن الدائرة الأوروبية. فساركوزي اقترب من السياسة الأميركية في مختلف الشئون الدولية. فالموقف من الاتحاد الأوروبي متشابه، كذلك من روسيا الاتحادية، وتركيا (ملف الأقليات) وإيران (الملف النووي) والعراق (دعم حكومة نوري المالكي) وسورية (الانفتاح المدروس) ولبنان (التفاوض مع مختلف الأطراف) وأمن «إسرائيل» وأولوية موقعها الخاص في دائرة «الشرق الأوسط». أما «المتوسطية» فهي مجرد ايديولوجيا أطلقت للتغطية على خطوات الانسحاب من هذه الدائرة إلى تلك.

تعارضات ساركوزي ليست متناقضة وإنما هي إشارات سياسية تدل على وجود متغيرات غير انقلابية على عهد شيراك. فالطلاق السياسي حصل بهدوء على غرار طلاقه من زوجته... وما تبقى يمكن انتظار الإعلان عنه رسميا خلال لقاء ساركوزي وبوش في «البيت الأبيض» في 6 نوفمبر المقبل.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1875 - الأربعاء 24 أكتوبر 2007م الموافق 12 شوال 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً