أشارت تفاعلات قضية منع وزارة الإعلام كتاب الزميل نادر كاظم «استعمالات الذاكرة: في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ» إلى زيادة الاتساع الخطير في تلك الفجوة البركانية الملتهبة بين المجتمع والدولة، والتي يجد فيها المواطنون والقاطنون في هذا البلد ملامحَ شيزوفرينية وانفصامية بالغة الحدة لا تعكس أية بوادر ومنبئات باستقرار سياسي واجتماعي يفترض أن يكون معززا لبيئة تشهد سيرورات عمليات إصلاح ودمقرطة مستمرة!
فهذه الفجوة تفصل وتفرّق وتميّز وتقطع السبل بين حرية صحافية واعدة - على رغم أنها تراجعت كثيرا - وتعسف بيروقراطي عام مازال ممتدا منذ زمن أمن الدولة الأغبر حتى عهد «الانفتاح» و «الحرية» و «الإصلاح» الذي نشهده، كما أنها - بحسب رواية الجهة الرقابية المكلفة بالمنع والقمع المعرفي والتحجير الإبداعي - تنبئ عن كوننا إزاء دولة وحكومة تريدان لنا «الاستقرار» و «الوفاق» و «الاندغام الوطني» في مقابل صحافة ومنظمات مجتمع مدني وتيارات وجماعات تريد جميعا «الفتنة» و «الإثارة»و «الأكشن الطائفي»، كما يوجد هنالك نص قانوني صريح والحمدلله على ذلك النص، وشكرا للدولة والحكومة الرشيدة، وأعوذ بالله من شرور الفتنة السوداء التي لا تذر، والتي تريد «أنابيب» الصحافة الغازية الحقود إذكاءها، وتريد «براميل» المجتمع غير الناضج تخميرها!
وربما سيقولون لنا: «علامَ البكاء أصلا على منع كتاب لنادر كاظم، فقد منعنا من قبل كتاب إيميل نخلة وكتاب حميدان وكتاب الباكر وكتاب فؤاد خوري وكتابين لعبدالله خليفة وكتابا للصحافي محمد السواد، وكل الكتب التي تهز بأسس المجتمع وثوابته السرمدية، وتثير المقت الطائفي، وتسعّر الفتنة بين أفراد الشعب البحريني الواحد! لقد ملأنا بها حجرة كاملة وربما أكثر وأكثر! فلا بد من أن تؤمنوا - يا معاشر البحاثة والأكاديميين والكتاب والصحافيين والنشطاء والمراهقين - بالقضاء والقدر. لو شئتم فانشروها في الصحافة وفي مواقعكم الإلكترونية وفي أحراش المنتديات سلاسلَ وحلقات وأقراطا، ولكن إياكم أن تحرجوننا و(تفشلونا) أبدا بالطلب العاقل والرزين المحترم، وباسم الذوق والقانون أن ننشر باسمنا كتابا ذا قيمة معرفية ومهارة بحثية عالية كهذا يستحيل هضمه مرة واحدة، وإن كان فوقنا ووراءنا وأمامنا وفي كل مكان، ما في حدا أحسن من حدا. وهذه مشكلتكم أنتم ونادر وتاريخكم الذي كتبتموه وتكتبونه لوحدكم، ونحن وتاريخنا علينا فقط السمع والطاعة، وينبغي عليكم أن تفهموا وتفقهوا أن السكوت عندنا يعني علامة (الرضة) على جبين الحرية والتقدم والازدهار، وليس علامة الرضا عما أنتم تقترفون وترتكبون وكما يتداول بينكم، ولا ينشر مرة أخرى بيننا!».
ونحن نقول لهم: «إذا ما آمنتم بالفصل بين المجتمع والدولة، وبين قنوات الصحافة والحكومة، واستطعتم بحنكة فلسفية بالغة التسريح بين (التداول) و(النشر)، فهلاّ بيّنتم لنا الحكم الفقهي من ازدواجية تلك المعايير الشرعية والقوانين، ولو أسلوبا فيما يخص الأسس والثوابت المجتمعية والوطنية التي مارستموها طيلة هذه المدة! أنتم تحرمون وتكفّرون وتقمعون فضح الطائفية علميا وتشريحها واستبطانها معرفيا فهو ما يهدد استقرار الطاولة و(الصينية) الوطنية، ولكنكم في الوقت ذاته تغضون الطرف عن الممارسات الاستهلاكية الطائفية المتداولة ورائحة الحرائق الطائفية التي تفوح من الكثير من المنتديات والمنشورات ذات الصيغة والصبغة السياسية الممالئة التي ربما من السهل احتواؤها وتدليكها سياسيا وحشوها شعاراتيا بدلا من منعها وقمعها، وبالتالي لا مخافة من تهديد الاستقرار الوطني بوسخ وقاذورات السياسة على العكس مما تفعله هذه (القنابل) المعرفية! هل هي إشارة لجميع من يريد أن يؤلف كتابا معرفيا نفيسا ويحقق رقما قياسيا في معدلات المقروئية أن يلتزم حدود الحكمة فيختصر الطريق ويلجأ إلى الصحافة والمدونات الإلكترونية، ويستعرضه في الندوات والمنتديات والصالونات، ولكن يحاذر من الوقوع في نار (الرقابة) وبين براثن (الإعلام) التي لن ترحمه أبدا، فهي وحدها تعرف الفرق المتفلسف بين (التداول) و(النشر)، والذي نجهله نحن المبتلين بالحرية؟ هل أتاكم نبأ دخولنا عصر القرية الكونية ومواكبة الحال القدرية المفتوحة بلا أدنى أفق لتطورات تكنولوجيا الاتصالات، وأنه أصبح بالإمكان تحقيق أقصى درجات الاستفادة من الحلول الإلكترونية والإنترنتية المتاحة بالمجان مثل خدمة (anonymouse.org)، التي تخرق جميع الحجب والجدران والبرازخ من كل جهة بكل حجم»!
إذا، بناء على ذلك الإبداع الإلكتروني وإبداع النشر الصحافي مسبقا وعمومية التداول لاحقا، من المفترض أن تصبح قرارات المنع والمصادرة الرجعية - وفي ظل تلك البدهية الواقعية المجربة - ذات كلفة عالية وطائلة جدا تطول سمعة المملكة ولا تطول شيئا من الكتاب الذي قرأه قراء الصحيفة يوميا وأشبعوه مداخلة وملاحظة، وتعليقا وأخذا وردا، واتهاما وإشادة وعدم رضا عن الكاتب من أقصى المعارضة إلى أقصى الموالاة. هذا بالإضافة إلى عقم تلك الإجراءات المجربة سابقا! خذوا على سبيل المثال ذاك الانتشار الخارق لتلك التقارير المثيرة للجدل التي أثارت ردود فعل واسعة جدا، ونكأت جراحا مازالت غضة ومفتوحة! أعتقد أن لو قامت «إدارة الرقابة» بتكليف فريق ولجنة منقاة ومنتخبة من بحّاثتها ومؤرخيها ومفكريها للقيام بالمناقشة والرد معرفيا على كتاب كاظم «غير القانوني» و»المغضوب عليه» وطبع ونشر تلك الردود، فسيكون مثل هذا القرار الحضاري والعصري حينها أقل كلفة بكثير من قرارات المنع والمصادرة العقيمة والمعدومة الجدوى! هل كانت خطيئة نادر كاظم الآدمية أنه احترم القانون من دون أن يقدّر حجم الأهواء والأمزجة والرغبات السياسية الملتبسة والمفروضة طرقا على رأس «إدارة الرقابة» بمعاييرها المبهمة وسكوتها المديد؟ هل كانت خطيئته أنه أراد أن ينشر إنتاجه المعرفي المميز باسم وزارة الإعلام في البحرين أم أنه كان حسن النية وواسع الخيال ويعيش خارج العصر وخارج الإطار الإدراكي لإبداعات الرقابة في مجتمع تعددي مبتلى بالحرية؟
هل كانت مشكلة «الإعلام» تكمن في أنها تجسّد تلك الرؤية المصمتة القائلة إن طريقنا إلى مستقبل مشرق، ووفاق وطني، ووعد بالإصلاح والتغيير النموذجي يستلزم تحقيق الإبادة الجماعية للذاكرة وتجاهل ردة التاريخ حد العمى أم أنها تجهل الأهمية الوجودية لهذه الذاكرة المثخنة بإشراق في رفد مساعي التنمية، وتنوير دروب المصالحة، وتقريب آفاق العدالة باستقاء العبر والدروس التاريخية، ولا يتم ذلك من دون قراءة موضوعية مميزة، بتعددية ثرية للقراءة التاريخية المعرفية، ويستحيل أن يتم برواية رسمية ثابتة إلى الأزل أم أنها تتبنى شعار «لا تاريخ من أعلى ولا من أسفل ولا من الخصر، وإنما رواية رسمية واحدة ذات رسالة خالدة»؟ هل هي مصابة بإعتام حاد في الشبكية في التمييز بين نادر كاظم وبشث أي موالٍ لها مثلا؟ إن كانت المشكلة تكمن في أنكم وأمثالكم تدمنون تسييس التاريخ، فما مشكلة نادر كاظم إن كان يكرس التعددية في قراءة التاريخ البحريني معرفيا بأبعاده المختلفة ومنها البعد السياسي!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1875 - الأربعاء 24 أكتوبر 2007م الموافق 12 شوال 1428هـ