كنّا على وشك مغادرة محطة الحافلات في مبنى سلطة الميناء عندما قفز مسافر أخيرا إلى داخل الحافلة. ترنح داخل الحافلة وشكر السائق؛ لأنه فتح له الباب في اللحظة الأخيرة. وتمشى في الممر باحثا عن مقعد شاغر. تجاوز أوّل مقعد رآه (وهو المقعد الشاغر الوحيد تقريبا) واستمر في المشي إلى النهاية حيث جلس إلى جانب امرأة في منتصف العمر يرافقها طفل مزعج.
من مقعدي لاحظت أنّ راكبين اثنين سابقين تجاوزا كذلك ذلك المقعد الشاغر في مقدمة الحافلة بحثا عن مقاعد أخرى في الخلف.
كان ذلك المقعد الشاغر يقع إلى جانب رجل يلبس لباسا تقليديا أزرق اللون من جنوب آسيا، وعمامة هندية وله لحية طويلة.
كان ركاب الحافلة خليطا من البشر من أعمار وألوان مختلفة يتكلمون لغات مختلفة. إلاّ أنّ المقعد المحاذي لهذا الرجل كان المقعد الخالي الوحيد.
فهمت الأمر فجأة. أنا كذلك تجنبت دون وعي إلى حد ما ذلك المقعد قليل الحظ. هل وصل الرهاب الإسلامي درجة لا أرغب حتى أنا فيها بالجلوس قرب رجل ملتحٍ يلبس الثياب الآسيوية التقليدية؟ أم هل أبعدني مجرد الرعب من أن يتم ربطي ولو عن بعد بشخص «يثير منظره الشك» بعيدا عنه؟ ولماذا أقوم وبشكل غريزي بوصم هذا الرجل بأنه «مثير للشك»؟
بينما جلست قابعة في مقعدي سيطرت علي موجة من الارتباك والحياء، فأنا أقيم في الشرق الأوسط، وأنا عربية مسلمة، وقد درستُ سياسة الشرق الأوسط وأعتبر نفسي ناقدة ذكية ماكرة فكيف استخدمت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول الإرهابية وأسيء استخدامها لعزل منطقتي وشعبي وديني. إلاّ أن ردة فعلي التلقائية عند ولوجي الحافلة يوم السبت المشمس ذلك كانت الابتعاد أكثر ما يمكن عن رجل قد نخطئ في تقدير توجهاته الدينية.
كيف شعر ذلك الرجل؟ تساءلت، وهل لاحظ هو أنّ المقعد المحاذي له هو المقعد الخالي الوحيد في الحافلة؟
من المحتمل أنه كان يتوجّه عائدا إلى منزله بعد يوم عمل شاق في مانهاتن. يحتمل أنه كان ذاهبا إلى بيته وعائلته. قبل الحادي عشر من سبتمبر، لم تخطر أفكار كهذه ببال الناس بتاتا. إلاّ أنه بعد ذلك اليوم المشؤوم أصبح مجرد منظر رجل تشير ثيابه ومنظره إلى أنه قد يكون مسلما قد يثير القشعريرة عبر أجساد أناس يجري تلقينهم وبشكل مستمر كليشهات تحيط بالإسلام.
بعيدا عن الفصول والمقالات التي ناقشت دون نهاية لصالح الإسلام وضده، ولصالح التسامح وضده ولصالح أو ضد الانقسام إلى قسمين شرقي وغربي، كان منظر ذلك اليوم مؤثرا جدا فيّ بسبب ما يبدو أنه ردات فعل غريزية وتلقائية لأناس تواجدوا حول ذلك الرجل.
وهذه بالضبط هي النتيجة المأسوية «للحرب على الإرهاب» أو للثقافة التي أوجدتها عبر أنحاء العالم كافة. الكثيرون من الناس، وخصوصا في الغرب، يتجنبون اليوم بشكل غريزي من يظهر أنهم مسلمون، بينما يظن الكثيرون في الشرق أن الغربيين أو «الأجانب» (بمعنى الأميركيين والأوروبيين) هم من الصليبيين مهمتهم إزالة الإسلام.
بالنسبة لجميع من هم ليسوا جزءا من مفهوم نشطاء «التلاقي بين الشرق والغرب» تعتبر عملية إضفاء صفة الشيطانية على الآخر أسهل بكثير من محاولة فهم ذلك الآخر. الاعتقاد بأن «الآخر» لا يستحق تسامحنا يوقفنا عن التفكير بهذا الآخر كإنسان. وضع الآخر في إطار أوجدته بعض القصص الحقيقية، وكذلك العديد من الأساطير والإشاعات أسهل في عقليتنا من بذلك الجهود لفهمه. يبدو أننا لم نعد نرى الآخر على أنه يحمل نفس قيمنا أو أنه إنسان مثلنا.
شعرت أنا نفسي بشكل غريزي بالآخر الخاص بي أثناء رحلتي إلى الولايات المتحدة. لم أكن قد ذهبت إلى هناك بعد الحادي عشر من سبتمبر؛ لأنه لم يكن لي أي عمل هناك بالدرجة الأولى، وكذلك إلى حد ما، بسبب جميع القصص المرعبة التي سمعتها من العرب أمثالي الذين تعرضوا إلى التحقيق في المطارات الأميركية لدى وصولهم أو قبيل مغادرتهم.
تابعت في هذه الأثناء وكجزء من عملي تطورات حوار ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، وتطور المشاعر العربية/ المسلمة حيال أميركا، وبالعكس. شاركت بعدّة مؤتمرات في الولايات المتحدة تحاول رأب الصدع الوهمي بين الشرق والغرب، وتساءلت دائما كيف سيرحب بنا الآخر.
لم تبرر تجربتي مخاوفي. لا أقول إنّ سجادة حمراء قد فُرشت لأجلي، ولكنني ببساطة لم أشعر أنني استُهدفت في أي وقت من الأوقات بسبب منظري أو ثيابي، أو عندما عرّفت نفسي بأني عربية أو سورية. ولكن في اللحظة التي تربط نفسك فيها بأي منظر يحدد هويتك، كالعمامة أو اللحية أو المظهر العسكري، تختفي الاعتيادية ويستولي مبدأ «نحن مقابلهم» على الموقف.
من المحزن حقا أنه في عصر المجتمع العالمي والتلفزة الفضائية مازال من الصعوبة بمكان الحصول على عقلية أكثر انفتاحا وأكثر تسامحا تجاه من هم مختلفون عنا إلى حد ما، بغض النظر عما إذا كان يلبس ثيابا مختلفة أو يتكلّم بأسلوب مختلف، أو تغطي شعرها أو تلبس صليبا. لقد حان الوقت للفصل بين الناس العاديين، بغض النظر عن أسلوب ثيابهم أو لحاهم، عن تلك الأقلية التي تدعي أنها تعمل نيابة عنهم بينما هي تعيث فسادا باسمهم.
*سورية مقيمة في القاهرة تعمل في مجال القضايا الإنسانية والتنموية ومجال الاتصالات في منطقة دولية، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1875 - الأربعاء 24 أكتوبر 2007م الموافق 12 شوال 1428هـ