«اغتيال روغ» الذي يعرض حاليا في سينما السيف يقوم على سيناريو يعطي فكرة سريعة عن عالم الجاسوسية وما يحتويه من ألغاز وتداخلات لا تظهر أمام العالم الخارجي. فالسياسة طبقات منها الغلاف الخارجي الذي يظهر أمام الناس بحلة سوية وألوان زاهية وتحته تقع طبقات من شبكات ومافيات تدير السياسة بأصابع خفية لا ندري عنها ولا نمتلك عنها المعلومات الكافية.
هذا النوع من الأفلام ازدهر في الفترة الأخيرة وانتشر في مرحلة ما بعد «الحرب الباردة» نظرا إلى التعديلات التي طرأت على السياسة الدولية وظهور نوع من «السلم البارد» بين معسكرات ايديولوجية كانت تتقاتل بوضوح في السابق. بعد تراجع خطوط تماس حرب المعسكرات لجأ المخرجون إلى البحث عن عالم آخر يشكل جاذبية للقراء والمشاهدين. وجاءت أفلام الجاسوسية والمطاردة وخطوط التهريب والمافيات لتعبئة الفراغ السياسي، فأخذت تحتل مكانها في السينما الأميركية لتشكل مع الوقت ذاك البديل المطلوب التعرف إليه بأدق التفاصيل والجزئيات.
عالم الجاسوسية غرائبي في طبيعته؛ فهو يقوم على السرية والأسرار والتخفي وكذلك يعتمد المعلومات الخاصة المستقاة من شبكات منافسة وقوى سياسية ليست بالضرورة موالية. وبحكم طبيعة عمل هذا العالم الغريب فإن الأخلاقيات التي تسوده ضعيفة. فهو أصلا يعتمد على السرقة والرشوة والتلصص واقتحام الخصوصيات والابتزاز والتشهير وغيرها من سيئات؛ بهدف الحصول على معلومات وإعادة استخدامها لمنع الطرف المنافس من التحرك المضاد.
هذا العالم إذا ليس شريفا. ولأنه كذلك فليس صعبا اختراقه ورشوته واستخدامه من قبل شبكات التهريب والمافيات واسطة لنقل البضائع أو نهب الثروات أو سرقة المتاحف والآثار وغيرها من أنشطة تتجاوز حدود المعقول أو تلك المواد المتعارف عليها تقليديا (تهريب المخدرات مثلا).
فيلم «ROGUE Assassintion» يتحدث عن هذا العالم المخابراتي/ المافياوي وتحديدا المافيات اليابانية التي تعتمد تنظيم التراتب العائلي والامتداد في دائرة مغلقة شديدة الولاء. ولكن هذا الانضباط الهرمي/ التنظيمي لا يمنع التنافس بين العائلات (المافيات) على كسب السوق واحتكارها وإزاحة الشبكات المضادة من الطريق.
الاحتكار يدفع المافيات إلى خوض الحروب السرية وتصفية بعضها بأسلوب عنيف لا يتورع عن ارتكاب أبشع الطرق للوصول إلى الهدف. وهذا الطموح الخاص إلى السيطرة لا يمكن التوصل إليه من دون اختراق الشبكات المنافسة. وهنا بالضبط تبدأ مهمة الجاسوسية وذاك العالم السري الذي يدير اللعبة من تحت الأرض وخلف الكواليس.
هناك إذا منطقة وسطى تجمع بين عمل المافيات في قطاعات التهريب (التجارة غير المشروعة) وشبكات الجاسوسية في قطاع المعلومات (تجاوز خصوصيات البشر). كل فريق يحتاج إلى الآخر. فالمافيات تريد ذاك الغطاء القانوني الذي يمكن توفيره من خلال رشوة الشرطة والجمارك وحرس الحدود لتمرير الصفقات. وشبكات التجسس تحتاج إلى المال وتطمح إلى تحقيق حد معقول للرفاهية مقابل تلك المخاطر التي تتعرض لها في عملها اليومي.
هذه التقاطعات تشكّل محور الفيلم. إلا أن الجديد في الموضوع هو اتباع السيناريو أسلوب الخداع الذي يشبه فعلا عالم الجاسوسية. فمن البداية يطرح المخرج ذاك السؤال/ اللغر: من هو روغ؟ فهذا الشخص المطلوب اغتياله أو قتله أو تصفيته أو إزاحته من الطريق غير موجود ولكنه مطارد.
هذا التساؤل يبدأ من الدقائق الأولى حين تحصل مواجهة مسلحة يتساقط خلالها العشرات بين جاسوسين محترفين ومجموعة من المافيا يترأسها «روغ» الذي لا تظهر صورته. ويصاب «روغ» بطلقات نارية ويقع في النهر ولكنه لا يظهر. وبعد فترة تقتحم مجموعة مسلحة منزل أحد المحترفين وتقتله وأسرته وابنته وتحرق المنزل لإخفاء معالم الجريمة. المحترف الآخر يصاب بالذعر ويقرر الانتقام والثأر ومطاردة «روغ» الذي نفذ عملية اقتحام المنزل.
من النقطة الغامضة هذه تتداعى سلسلة مواجهات بين المافيات وتبدأ تصفية بعضها بعضا معتمدة على الخيانات والغدر وضعف الولاءات والرشوة وغيرها من أدوات الخطف والقتل والاغتيال.
محرك هذه الحرب الأهلية بين العائلات (المافيات) كان تلك الشخصية الغامضة التي تدعى «روغ». فهذا المقاتل المحترف شديد الذكاء ويملك المعلومات والخبرة التي تحتاج إليها المافيات للسيطرة على السوق واحتكار شبكات التهريب.
الوجه الآخر لهذه الحرب كان المحترف الذي أصبح وحيدا بعد قتل رفيقه وحرقه. فهذا قرر الانتقام وقتل «روغ» الذي تجاوز الخطوط الحمر وارتكب مجزرة بحق عائلة لا ذنب لها. وهكذا تبدأ ملاحقة لا تنتهي ومطاردات متواصلة تنقرض فيها المافيات (العائلات) واحدة بعد أخرى حين تنجرف إلى الاقتتال بتحريض من «روغ» وإدارته.
الفيلم عنيف ومثير. ولكنه ينجح في تقديم صورة عن ذاك العالم المتوحش الذي يظهر على غير حقيقته إلى أن يصل السيناريو إلى نهاية: مفاجأة.
النهاية كانت غريبة، إذ يتبيّن أن «روغ» المطلوب للاغتيال قُتِل حين اقتحم منزل العائلة على يد الأب (المحترف) بعد مقتل زوجته وابنته. وقرر «المحترف» أن يأخذ هوية «روغ» فحرق المنزل لإخفاء معالم الجثث وتوجه إلى طبيب وقام بعملية تجميل أو تغيير لشكله ليصبح مثل «روغ». والدافع لهذا العمل كان حب الانتقام وهذا لا يحصل من دون اختراق أعلى المراتب والوصول إلى رؤوس عائلات المافيات.
«روغ» إذا موجود وغير موجود. مطارد من الصديق (المحترف الآخر) الذي قرر الثأر انتقاما لصديقه ولا يعلم أن صديقه انتحل صفة أخرى وهيئة جديدة. هذه مفاجأة أولى. المفاجأة الثانية هي أن الجاسوس المحترف تبيّن أنه متعاون مع رأس المافيات اليابانية ويقبض المال وكان على علم باقتحام منزل صديقه ولكنه اعتبر قتل الزوجة والطفلة تجاوزا للأعراف والتقاليد... ولذلك قرر الانتقام من «روغ».
«روغ» إذا تبيّن أنه الصديق الذي يفترض أنه قتل. و«روغ» الحقيقي قتل ولا يعلم الصديق الآخر به. و «روغ» المطارد هو الصديق الذي يريد قتله. وهكذا تظهر شبكة من الكلمات المتقاطعة تشبه فعلا عالم الجاسوسية وأساليب تجارة المافيات غير المشروعة.
في النهاية يكتشف الصديق المحترف أن «روغ» هو صديقه المحترف الآخر وشريكه الدائم في العمليات. وهكذا تحصل مواجهة عنيفة بين «روغ» الشريف الذي زرع الشقاق بين المافيات وانقض على شبكة العائلات اليابانية وبين صديقه الذي أراد اغتياله ولكنه يفشل ويسقط بعد أن اكتشف سر «روغ» الحقيقي. فهذا صديقه الشريف الذي تآمر عليه وأودى بعائلته على حين هو غير شريف وتورط في علاقات مباشرة مع المافيات مقابل المال.
«اغتيال روغ» فيلم مثير يعتمد على حركات بوليسية عادية. ولكنه ناجح؛ لأنه يُدخِل المشاهد في عالم المافيات اليابانية وطبيعة الاتصال بين هذا العالم الغامض وشبكات الجاسوسية. ففي الجانب المذكور نجح الفيلم في تصوير تفصيلات تعطي فكرة عن العائلات والولاءات والخيانة والغدر إلا أنه ليس مقنعا أو لم يكن على السوية المطلوبة حين لجأ إلى إخفاء معالم الجثث للتغطية على معالم وجه «روغ» الحقيقي أو المزيف. الفكرة غير قوية ولكنها نجحت في اعتماد الخداع الذي زاد من الغموض والالتباس حتى ظهرت الحقيقة في اللحظات الأخيرة من الفيلم. ولكن الحقيقة لم تكن قوية كفاية لإقناع المشاهد أن البطل المخلص والشريف والشجاع ليس سوى خرقة رخيصة تشترى وتباع وصولا إلى خيانة أعز صديق.
العدد 1875 - الأربعاء 24 أكتوبر 2007م الموافق 12 شوال 1428هـ