غادرنا يوم الإثنين 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2007، في برلين وبعد صراع مرّ مع المرض، سركون بولص، شاعرنا العراقيّ الكبير الّذي تناوبته الأراضي البعيدة والغربة الكاسرة حتّى استقر به التطواف في ألمانيا ليلفظ بها أنفاسه الأخيرة وهو في الثالثة والستّين من عمره.
ولد سركون بولص العام 1944 بالقرب من بحيرة الحبّانية، العراق. يقيم منذ العام 1969 في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة، وقد أمضى السنوات الأخيرة متنقلا بين أوروبا وأميركا، وخصوصا في ألمانيا حيث حصل على عدّة مُنَح للتفرّغ الأدبي وحيث صدرت له ثلاثة كتب بالألمانية: غرفة مهجورة، قصص 1996؛ شهود على الضفاف، قصائد مختارة 1997، وأساطير وتراب ، سيرة 2002 وأصدر بولص: الوصول إلى مدينة أين، الحياة قرب الأكروبول، الأوّل والتالي، حامل الفانوس في ليل الذئاب، إذا كنتَ نائما في مركب نوح، والعقرب في البُستان.
كما أصدر ترجمته لكتاب إيتيل عدنان هناك في ضياء وظلمة النفس والآخر، وسيصدر له هذا العام النبي لجبران، ورقائم لروح الكون / ترجمات مختارة.
كان ينتمي في الستينات وقبل أن يهاجر، إلى جماعة كركوك الادبية ، حيث برزت وقتها أسماء عدة من العراقيين الناطقين بالسريانية، مثل الشاعر وراعي الأدباء (الأب يوسف سعيد) والشاعر العبثي الراحل (جان دمو)، وكذلك الشاعر العراقي الأصيل والمتميز (سركون بولص)، هذا الشاعر المنحدر من مدينة كركوك حاول مع أقرانه حين وصلوا إلى بغداد في الستينات تغيير خريطة الشعر العراقي، وفي إحداث ثورة بأساليبه وتقنياته ضمن مشروع يريد تجاوز ما أنتجه جيل الرواد الشعري، جيل قصيدة التفعيلة. ومن بغداد حمل سركون بولص مشروعه الشعري، إذ توقف في بيروت وتعرف على تجربة مجلة شعر اللبنانية وساهم في تحريرها وترجم الكثير من النصوص الشعرية من اللغة الإنجليزية، خصوصا لشعراء القارة الأميركية. ثمّ منذ فترة تزيد على 20 عاما هاجر سركون بولص ليقيم في مدينة سان فرانسسكو. وخلال الأعوام التي قضاها هناك، بقي سركون مخلصا للشعر ولترجمة الشعر، وأثناء تلك الإقامة الطويلة التي قرر أن ينهيها بالذهاب الى أوروبا خصوصا إلى لندن وباريس وألمانيا إذ حصل على عدّة مُنَح للتفرّغ الأدبي، طور سركون تقنياته الشعرية، وصارت اللغة لديه أكثر حسية. فهو على رغم إقامته الطويلة في الولايات المتحدة لم يتخلص من لهجته البغدادية وبقي القروي نفسه ذلك القادم من كركوك.
يقول في قصيدة له بعنوان: «حديث مع رسّـام في نيويورك بعد سقوط الأبراج»:
نهايتكَ أنتَ
من يختارها؟ قالَ صديقي الرسّام
انظر إلى هذه المدينة. يشترونَ الموتَ بخسا، في كلّ دقيقة، ويبيعونَـهُ في البورصة
بأعلى الأسعار
كان واقفا على حافة المتاهة التي تنعكفُ نازلة على سلاسل مصعد واسع للحمولة
سُفُلا بإثني عشر طابقا إلى مرآب العمارة
إنها معنا، الكلبة
سمّها الأبديّـة، أو سمّها نداءَ الحتف
لكلّ شيء ٍ حدّ، إذا تجاوزتهُ، انطلقت عاصفة ُ الأخطاء
إنها حاشية على صفحة الحاضر
خطوتها مهيّـأة لتبقى
حَفرا واضحا في الحجر
أرى إصبُعَ رودان في كلّ هذا.
أراهُ واقفا في بوّابة الجحيم، يشيرُ إلى هوّة ستنطلقُ منها وحوشُ المستقبل، هناكَ حيثُ
انهارَ بُرجان، وجُنـّتْ أمريكا
هكذا حدّث الرسام صديقه الشاعر وهو يسأله: نهايتك أنت، من يختارها؟ في إشارة إلى البرجين اللذين انهارا في نيويورك، وكأنهما يخفيان برجا آخر هو الشاعر سركون بولص وقد «اختار نهايته»، هناك، بمنأى عن النبع والأصدقاء.
رحل الشاعر الكبير سركون بولص لنظلّ نذكره بين قصيدة وقصيدة فمثله لا يموت وإن اختفى عنّا.
حركة شعراء العالم
العدد 1875 - الأربعاء 24 أكتوبر 2007م الموافق 12 شوال 1428هـ