الديمقراطية مصطلح أصله يوناني معناه «حكم الشعب». كانت أثينا والمدن اليونانية تحكم قبل الميلاد (578ق.م.ـ335ق.م.)، بواسطة ما يسمّى بالديمقراطية المباشرة. وقد كان الرجال (فقط الرجال المواطنين) يجتمعون في الساحة العامّة ويقترحون القوانين ويصوّتون عليها، ثم يتم اختيار بعض الرجال (من خلال القرعة)؛ لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه. ولم يكن حينها يوجد مفهوم «حقوق» المواطن كما هو متعارف عليه حاليا.
وقد هاجم فلاسفة اليونان (مثل أفلاطون وأرسطو)، تلك الديمقراطية وأطلقوا عليها اسم حكومة الجهلاء والدهماء والرعاع. وقد أدت ممارسات الأثينيين لهجوم الفلاسفة وتحقيرهم للحكم الأثيني الذي أطلق عليه اسم الديمقراطية، ولم يستعد المفهوم قوته إلاّ بعد مضي قرون عديدة. وقد دعا أفلاطون والفلاسفة اليونان لإقامة «حكم الفلاسفة» أو حكم العقلاء/ الفاهمين، ومورس هذا النوع في العهد الروماني الأوّل وسيطرت بذلك الطبقة الارستقراطية على الحكم.
- إنّ قرابة 20 في المئة من دول العالم - في عالم اليوم - لديها أنظمة توصف بالديمقراطية. هذه الـ20 في المئة هي الأكثر استقرارا، والأكثر ازدهارا من بقيّة الدول.
- الديمقراطية ممكن أنْ تفهم بصورة فكرية أو بصورة إدارية. من الناحية الفكرية هناك اختلاف بشأن المبادئ التي يسعى لها الإنسان في حياته. الطرح الفكري يتداخل مع الطرح الإداري، غير أنّ الديمقراطية من الناحية الإدارية يمكن أن تجد قبولا أكثر اتساعا. ولهذا ممكن أنْ نلاحظ مسميات متداخلة بين الطرح الفكري والطرح الإداري. مثلا: الليبرالية الديمقراطية، الاشتراكية الديمقراطية، المركزية الديمقراطية، الشعبية الديمقراطية، المجتمع الديمقراطي، الإدارة الديمقراطية (إدارة الأعمال التجارية والصناعية والخدماتية)، إلخ..
- إضافة كلمة «الديمقراطية» للمجتمع، مثلا، يقصد منه وجود نوع من المساواة المقبولة بين أفراد المجتمع. إضافة كلمة «الديمقراطية» لكلمة مثل «الاشتراكية»، يقصد منه أنّ المجتمع يدار بواسطة مؤسسة تمثل المجتمع من أجل تحقيق عدالة اجتماعية من خلال توزيع الثروات الاقتصادية بصورة أكثر عدالة.
- إضافة «الديمقراطية» للأعمال التجارية والصناعية والخدماتية يقصد منه إعطاء حقوق للعمّال والموظفين العاملين ضمن المؤسسات المملوكة لرأس المال.
- إضافة الديمقراطية لكلمة «الشعبية» يقصد منه أنّ الدولة والمؤسسات الحكومية نابعة من الشعب. وبما أنّ «الشعب» كلمة فضفاضة (لأن الشعب، كلّ الشعب، لا يستطيع أنْ يكون الحاكم والمحكوم في آن واحد) فإنّ الحركة الشيوعية التي وصلت للحكم (مثلا في الاتحاد السوفياتي سابقا، وفي الصين وفي كوريا الشمالية، إلخ)، قالت إنّ الشعب يمارس حقه في إبداء الرأي والمشاركة في الحكومة بصورة «هرمية مركزية» من خلال تنظيم الحزب الشيوعي، الحزب الوحيد والمؤهل الذي يمثل جميع الشعب. وقد تحوّلت أنظمة «الديمقراطية المركزية» إلى دكتاتورية متشبعة مع مرور الأيام، ذلك لأن الأسلوب الإداري المركزي يدفع باتجاه الديكتاتورية. كما أن النهج الفكري الشيوعي يؤمن بالحسم الثوري «لإزالة الطبقية» في المجتمع وبالتالي يوفر قوة مطلقة للنخبة الماسكة بأعلى الهرم.
- إضافة «الديمقراطية» لكلمة الليبرالية يقصد منه أنّ المجتمع محكوم من قبل «نخبة» من أفراد المجتمع. وأنّ هذه النخبة تتنافس فيما بينها للحصول على أصوات الناخبين. وبالتالي فإنّ الليبرالية تؤمن بـ«التعددية» (أي تعدد الآراء)، وتؤمن بحقوق أفراد المجتمع في أنْ يمارسوا دورهم في الحكم من خلال مؤسسة «تمثيلية»، خاضعة للمحاسبة من خلال الأجهزة الحديثة المتخصصة.
- الديمقراطية الليبرالية لها عدّة أنواع ولكن أهمها الأنموذج الفرنسي، الأنموذج البريطاني والأنموذج الأميركي. وكل أنموذج له نواقصه وميزاته. ويمكن التفريق بين الليبرالية الديمقراطية التي تعتمد على البرلمان (كما في بريطانيا)، أو تلك التي تعتمد على النظام الجمهوري الرئاسي (كما في الولايات المتحدة).
- النظام الليبرالي ـ الرئاسي: لو أخذنا ما يقوله منظرو النظام الليبرالي الأميركي، فإنهم يشرحون نوعية النظام بأنه يعتمد على التنافس المستمر بين مؤسسات ونخب المجتمع من خلال مجموعات الضغط، وأنه يعتمد على المؤسسات الدستورية الثابتة، وأنه منفتح على أفراد المجتمع بصورة تمكن الشعب الأميركي من التأثير المباشر على سياسات الحكومة. ومن أجل تحقيق السيطرة الشعبية (الجمهورية) فإن النظام يعتمد على الانتخابات الدورية للأجهزة التنفيذية والتشريعية على المستوى الفدرالي والمستوى المحلي. ولا يخلو عام من الأعوام دون انتخابات من نوع ما، وتزداد حمى الانتخابات أثناء الانتخابات الرئاسية.
لقد كان مؤسسو الجمهورية الأميركية (مثل ماديسون وجيفرسون) كانوا يشككون في قدرة الديمقراطية المباشرة (كما كانت في أثينا) على الحكم. كما أن أولئك المؤسسون كانوا يشككون في السياسيين المعرضين للانحراف والفساد ولذلك فإنهم وضعوا أنظمة انتخابية ووضعوا الكثير من «نقاط التفتيش والضبط والموازنة» Checks and Balances على الأنظمة والأشخاص. وقد عرفوا الرئيس «بالوكيل» المعطى صلاحية من الشعب ولذا فإنه عليه أن يخضع للمحاسبة الشعبية من خلال المؤسسات التمثيلية (الكونغرس). وقد ركز هؤلاء على مفاهيم «الجمهورية» وكانوا يتحاشون ذكر الديمقراطية في البداية لارتباطها بالفهم اليوناني القديم. وترتكز الليبرالية الإميركية كثيرا على مفاهيم الحقوق الطبيعية والدستورية (العقد الاجتماعي) والبراغماتية (المنفعية).
- يقوم الفكر الليبرالي على التخوف من القيم المطلقة ومن أشكال التسلط التي تفرض هذه القيم. ويقول مفكرو الليبرالية أن العقلانية «الحيادية» التي توجهها «المنفعة» و«الفائدة الملموسة» و«الوجودية» المادية هي التي يجب أن توجه الحياة العامة. أمّا المعتقدات والقيم الدينية فهي «شأن خاص بين أي فرد يختار أن يؤمن بها لتنظيم علاقاته العبادية مع ربه»، حسب وجهة النظر الليبرالية (الفكرية). لقد ظهر الفكر الليبرالي كردة فعل على دكتاتورية الملوك ودكتاتورية رجال الكنيسة في أوروبا في القرون الوسطى. وتقول الليبرالية إن لكل فرد حقا مطلقا لاختيار ما يريد بشرط ألا يتعرض لمصالح غيره بالضرر. ويهتم الفكر الليبرالي بوضع الضوابط على الفئة الحاكمة لمنعها من التسلط. غير أنه من الخطأ القول بأن كل فكر أو عمل ليبرالي هو أيضا ديمقراطي. فالليبرالية كثيرا ما «تقدس» العقلانية «الحيادية» أو «العلمانية» إلى الدرجة التي تحول فيها هذا النهج إلى دين بحد ذاته، كما هو ملاحظ في ما يجري في دول مثل فرنسا.
- في بريطانيا فإن الليبرالية الديمقراطية بدأت تتبلور منذ العام 1688 من خلال تثبيت مبدأ سيطرة البرلمان (بدلا من الملك) على الحكم. وقد شرع البرلمان البريطاني حينها قانونا يقول إن الضرائب المفروضة لها صلاحية لمدة سنة واحدة وان البرلمان هو المخول لإعادة فرضها او عدم فرضها. كما إن المعارضة يتم تنظيمها من داخل البرلمان، بل ان المعارضة تشكل حكومة ظل على أتم الاستعداد للامساك بزمام الأمور في حال فشلت الحكومة البرلمانية المنتخبة. وبهذا فإن الممارسة الادارية هذه حررت المجتمع البريطاني من ظلم الملوك. ثم إن الليبرالية البريطانية عززت مفهوم حرية التعبير عن الرأي والصحافة والتجمع السياسي. كما ان القضاء البريطاني كان مستقلا عن الملك وعن البرلمان وكان (ولايزال) يعمل بمبدأ المحلفين (اشخاص مختارين من الشعب يستمعون للقضية في المحكمة ويصدرون حكمهم ببراءة او عدم براءة المتهم). والليبرالية البريطانية تركز مفاهيم الفردية Individualism وتقدّسها وتضبط السلطة الحاكمة من خلال مفهوم «العقد الاجتماعي» أو الدستور الذي نظر له المفكر الإنجليزي جون لوك.
اذا ، الديمقراطية المباشرة (كما كانت في اثينا قبل الميلاد) ليست معمولا بها، أي أنها ليست عملية، المعمول به في الليبرالية الديمقراطية (التمثيلية) هو تنافس النخب السياسية للحصول على أصوات الشعب. وأكبر الانتقادات تتركز على الطابع الدعائي (الدعايات) والاعلام الذي ينشط وقد ينافق اثناء فترة الانتخابات. كما أن مجموعات الضغط المتنفذة تستطيع الحصول على ماتريد اذا كانت متنفدة (كما هو الحال بالنسبة إلى اللوبي اليهودي في أميركا). ثم إن حقوق الأقلية قد تتعرض للاضطهاد بسبب تصويت الأكثرية، والاكثرية قد تكون مجموع 51 في المئة من الناخبين. هذا من الناحية الإدارية، أمّا من الناحية الفكرية فإن الليبرالية تمر في ازمة اخلاقية - اجتماعية لان تعريف الخطأ والصواب ليس له حدود ثابتة، ومع الايام فأن كثيرا من الأخلاقيات التي كانت خطأ في الماضي لم تعد كذلك في الحاضر. ويرد بعض الليبراليين بالقول بانه ومع كل هذه الانتقادان فإنّ هذا النوع من النظام افضل من غيره وأقل شرا من النظم الأخري> ويقول تشرتل، مامهناه: «الديمقراطية أقل انواع الأنظمة من ناحية السوء».
يرتبط مفهوم الديمقراطية بصورة مباشرة مع مفهوم «السيادة». فالسيادة لها معنيان. الأوّل: الحق في امتلاك والتحكم في قطعة أرض أو بحر والاجواء المحيطة بها واعماق البحر وباطن الأرض. المعنى الثاني هو حق الحكم لفئة ما أو لفرد ما على المجموعة المستوطنة لتلك البقعة الجغرافية. والسيادة تستمد من ثلاثة مصادر أساسية. (1) حق الفتح ويعتمد على التغلب بالقوة والسيف والقهر. (2) الحق الديني النابع من نهج الرسالة الدينية أو من فهم طبيعة الحكم المقبول دينيا. (3) الحق الشعبي: «حق تقرير المصير».
- النهج الديمقراطي يقول إن السيادة الملكية أو الدينية أو الجمهورية يجب ان تستمد من رضا المحكومين المتمثل بحق تقرير الشعوب لمصيرها من خلال الاستفتاءات والانتخابات والاتفاقات الدستورية وماشابه.
- أما من «الناحية الفكرية» فإن الديمقراطية ترفض أي شيْ لايصدر من الشعب، لأن الشعب هو «مصدر السلطات جميعها». الا أن هذا ليس متحققا بصورة مطلقة. ففي الولايات المتحدة، مثلا، فإن الشعب ينتخب الرئيس ولكن كلمة الحسم ليست للاصوات الناخبة وانما «للكلية» Electoral College. فالكلية لكل ولاية باستطاعتها ان ترفض الشخص الذي انتخبه الشعب. واعضاء الكلية يقومون بهذه المهمة ولهم الحق أن يرفضوا الشخص الذي انتخبه اذا لم يكن «مؤهلا» بحسب تقييم الكليات الانتخابية في الولايات المتحدة. وتشكيل الكلية يتم تقاسمه (بالأساس) بين افراد الاحزاب السياسية المسيطرة على الساحة السياسية. اما في فرنسا فان قانون الانتخابات الرئاسية يفرض على الذين يرشحون أنفسهم الحصول على تزكية عدد غير قليل من الشخصيات الفرنسية البارزة في المجتمع قبل أن يسمح لهم الدخول في الانتخابات. أما في بريطانيا فإن الأحزاب الدستورية (المنظمة بصورة قوية) تضمن عدم وصول أشخاص غير مرغوب فيهم لمنصب رئيس الوزراء.
*نقاشات في ورش عمل نظمت العام 1989
العدد 1875 - الأربعاء 24 أكتوبر 2007م الموافق 12 شوال 1428هـ