يحلو للبعض إطلاق صفة «السلطة الرابعة» على الصحافة باعتبارها تمارس دورا رقابيا قويا في مجتمعاتها يدفع باتجاه الإصلاح الشامل ويساعد في الوقت نفسه السلطات الثلاث الأخرى على تأدية واجباتها بصورة سليمة.
ويحلو لبعض الحكّام القول إنه - وأنظمته - مع حرية الصحافة، وإن هناك قوانينَ تصب في هذا الاتجاه وتمكّن الصحافيين من قول الحقيقة كاملة من دون خوف من سلطة الرقيب أو بطش الحاكم.
ويحلو لبعض الكتّاب والمسئولين القول إنهم مع حرية الصحافة وحقها التام في نقد كل ظواهر التخلف والفساد في المجتمع مادام هذا النقد يخدم الحقيقة ولا يتعارض معها.
ولكن ما يحلو لكل أولئك - قولا - قد لا يحلو لهم - واقعا - فالقول شيء وتطبيقه شيء آخر، ولكل حال لبوسها فما يصلح اليوم قد لا يصلح غدا وما يحقق المصلحة اليوم قد يتنافى معها غدا، ولله في خلقه شئون.
الأمثلة كثيرة ويصعب حصرها في مقال واحد لهذا سأكتفي ببعض الشواهد لعلها توضح الفكرة من المقال. الولايات المتحدة - التي تتحدث باستمرار عن حرية الصحافة، كما تتحدث عن الديمقراطية وضرورة نشرها في عالمنا العربي والإسلامي - تعد من الدول المحاربة لحرية الصحافة، بل تعدت ذلك إلى قتل الصحافيين أو سجنهم.
أميركا قتلت عددا من الصحافيين أثناء غزوها أفغانستان والعراق، وقد قصفت طائراتها - عمدا - مقرات بعض الفضائيات؛ والهدف إسكات الصحافيين الذين لا يقفون مع مخططاتها.
أميركا منعت الصحافيين الأميركان نشر بعض الحقائق عن مجازرها في العراق، ومازالت تمنع نشر الأخبار التي تكشف فضائحها - بطبيعة الحال - على قرار استطاعتها وفرنسا التي توصف بأنها «أم الحريات» سنّت قوانينَ تبيح لها سجن من يتحدث بحرية عن المحرقة اليهودية، أو عن اليهود بما يسيء إليهم - من وجهة نظرهم - وتناست فرنسا كل أحاديث عن الحريات التي تبت دولتها الحديثة على أساسها.
وإذا ابتعدنا عن عالم الغربيين واقتربنا من عالمنا العربي نجد أن المشكلة تزداد وضوحا، ففي مصر يتم الحديث حاليا عن أحكام صدرت بسجن وتغريم مجموعة من رؤساء التحرير بحجة أن هؤلاء نشروا أخبارا كاذبة تتعلق بصحة الرئيس المصري حسني مبارك. وكذلك أخبارا كاذبة عن بعض قيادات الحزب الحاكم. والعجيب في المسألة أن الذي رفع الدعوة ضد هؤلاء محاميان ينتميان إلى الحزب الحاكم.
تحركت - بطبيعة الحال - كثير من المنظمات داخل مصر وخارجها لإدانة هذه الأحكام «المسيّسة» - كما يقولون - كما توقفت - مدة يوم - عن الصدور مجموعة كبيرة من الصحف المستقلة؛ احتجاجا على الأحكام ومؤازرة للصحافيين.
المسألة مازالت تتفاعل في الداخل المصري، والحكومة عبر مؤسساتها تقول إنها تحترم حرية الصحافة، وإن قوانينها تؤيد تلك الحريات ولكن ما قام به أولئك الأربعة يتنافى مع تلك الحرية.
وفي خضم هذه المعركة أصدر شيخ الأزهر فتوى تبيح جلد الصحافيين ثمانين جلدة في حال نشرهم أخبارا غير صادقة باعتبار أن ما قالوه في تلك الحال ينطبق عليه حد القذف! ولست أدري أين فتاوي الشيخ من بيع الخمور علنا ومن المراقص وأشباهها؟ ليته يقول لنا ما حكمها؟ وما حكم بقائها في مصر؟
وفي البحرين يحاكم رئيس تحرير صحيفة «الأيام» عيسى الشايجي؛ لأنه كتب مقالا يسخر فيه من الشيخ وجدي غنيم فأقام الشيخ دعوى ضده يطالبه بحقه، ولاتزال القضية - كما أعلم - أمام المحكمة.
لجنة الحريات في اتحاد الصحافيين العرب لم تعجبها إحالة الشايجي إلى المحكمة فطالبت بإيقاف هذه المحكمة باعتباره - أعني الشايجي - من دعاة الحرية الصحافية، وقالت في بيان لها بهذه المناسبة: «إن خفافيش الليل البهيم هم الخاسرون دوما من الكلمة الحدودية والصريحة، ولن ينالوا إلا الخزي والهزيمة في معركة القضاء كما نالوها في معركة الصحافة».
محاكمة الصحافيين أجريت في كثير من الدول العربية - ومنها السعودية - وفي كل مرة كانت تثار مسألة حرية الصحافة وحدود هذه الحرية، وفي كل مرة - أيضا - كانت جهات الاختصاص تتحدث عن احترام حرية الصحافة والقوانين التي تؤيد هذه الحرية.
آخر من تحدث عن أهمية العقوبات التي يجب أن تفرض على الصحافيين عضو مجلس الشورى وأستاذ الإعلام عبدالله الطويرقي، ووعد قراء «الوطن» السعودية باستصدار قانون من المجلس يختص بمعاقبة الصحافيين الذين يتجرأون على نقد مجلس الشورى ولعله اعتقد أن هذا الوعد سيدخل السرور على القراء فاجتهد في إعطاء هذا الوعد.
الأخ الطويرقي اتخذ هذا الموقف على خلفية برنامج «طاش ما طاش» الذي انتقد فيه المجلس من خلال حديثه عن الليبراليين في السعودية.
كنت أتمنى أن يسع الطويرقي ما وسع رئيس المجلس الذي قال: «إن تلك الحلقة انتقدت المجلس ولكن حلقات أخرى سواها انتقدت دوائرَ حكومية أخرى، ولا تستحق المسألة حتى مجرد الحديث عنها»، وقد أحسن في هذا كثيرا وهذا يدل على سعة أفقه وحسن فهمه الأمورَ.
الذي لفت انتباهي هو أن الطويرقي كان يُصَنَّف من الكتّاب الذي يمارسون النقد الجاد، ولا أستبعد أنه انتقد المجلس قبل أن يصبح عضوا فيه، فما الذي استجد في الأمر الآن حتى يتخذ هذا الموقف الذي ليس له ما يبرره على الإطلاق؟
وإذا كان الطويرقي انطلق في موقفه القاضي بمعاقبة الصحافيين من برنامج «طاش ما طاش» فلماذا لم يتخذ هذا الموقف عندما انتقد هذا البرنامج المحاكم الشرعية وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووزارة الداخلية وسواها من الأجهزة الحكومية؟ وإذا كان يعتقد أن مجلس الشورى أهم من هذه الأجهزة كلها فسيجد من يقول غير ما يقول وما أكثر هؤلاء.
سأفترض - جدلا - أن الطويرقي نجح في إيجاد صيغة لمعاقبة منتقدي المجلس، وقد يستفيد من فتوى شيخ الأزهر فتكون العقوبة الجلد، وربما يضاف إليها السجن أو شيء آخر يجعل من حياتهم نكدا كلها. أقول: لو نجح المشروع فكل أجهزة الدولة ستفعل الشيء نفسه - وما في حد أحسن من حد - كما يقول إخواننا المصريون، وهنا ستصبح أجهزة الدولة كلها فوق النقد، وسيحسب هذا العمل - إن تم - في موازين الطويرقي إلى يوم القيامة إن شاء الله!
كنت أتمنى أن يعرف الطويرقي أن انتقاد المجلس يصب في صالح المجلس لا العكس، ولا أقصد هنا أن المجلس سيستفيد من هذا النقد لإصلاح ما يراه نقصا، ولكن أقصد شيئا آخرَ يختلف تماما.
معظم المواطنين لفترة الطويلة كانوا يرون أن المجلس لا يمثلهم؛ لأنه مجلس غير منتخب، وبالتالي كانوا لا يهتمون مطلقا بالحديث عنه حتى بالسؤال عمّا يجري فيه، وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فكانوا يرون أن كل القرارات التي تتصادم مع مصالحهم تمر على المجلس وبمباركته وهذا التصوّر كان يبعدهم عن المجلس والاهتمام به حتى الحديث عنه.
إن قيام البعض بالحديث عن المجلس والاهتمام بما يصدر عنه أمرٌ في غاية الأهمية حتى لو كان بعض ما يكتب نقدا لأعمال المجلس؛ لأن هذا النقد يدل على بداية حقيقية لاهتمام المواطنين بالمجلس وتفاعلهم معه، ورغبتهم في دفعه إلى زيادة الاهتمام بقضاياهم.
كنت أتمنى أن يدرك الطويرقي هذه الحقيقة فيفرح بها كثيرا ولا يتحدث عن مسألة تسيء إلى المجلس وقد تهدم كل ما بناه سابقا.
وكنت أتمنى أيضا أن يهتم الطويرقي بالحديث عن القضايا التي تهم المواطنين هذا إن أراد أن يخف النقد عن المجلس أو ينتهي تماما، وأمامه قضايا الفقر والغلاء والبطالة والتعليم والصحة وسواها من المسائل المهمة التي ترهق المواطنين والتي يرون أن من واجب المجلس أن يجد حلولا عاجلة لها.
لو فعل الطويرقي ذلك لحُمِل هو وكل أعضاء المجلس على الأعناق ولما احتاج إلى إتعاب نفسه في سنّ قوانينَ لمعاقبة الصحافيين ووأد الحريات والإساءة إلى سمعة بلادنا.
الذي أود تأكيده أن كلامي السابق لا ينفي اعتقادي أن حرية الصحافة يجب ان تكون منضبطة بضوابط الدين والخلق، وأن من حق كل أحد أو جهة أن يقاضي الصحافي أو الكاتب الذي ينقل عنه أخبارا كاذبة تسيء إليه، وأعتقد أن هذا التقاضي لا يعتبر قيدا ضد حرية الصحافة، فليس هناك أحد يحب أو يقبل أن يفترى عليه ما ليس فيه.
أما النقد الصادق فهو من حق كل صحافي أو كاتب، وليس لأحد أن يغضب من هذا النقد، بل الأوْلى أن يكون هذا النوع من النقد عاملا لإصلاح الجهة المُنْتَقَدة وتحسين أدائها.
على أية حال أنصح الصحافيين - ومن في حكمهم - أن يلتزموا الصمت مادامت الفتاوى والقوانين تحاصرهم، وعليهم أن يتذكروا دائما أن «الصمت حكمة» ومن لم يقبل هذا النصح فعليه أن يستعد لما هو أسوأ. والله المستعان.
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 1873 - الإثنين 22 أكتوبر 2007م الموافق 10 شوال 1428هـ