مع اقتراب فصل الشتاء أخذت تتجمع فوق «الشرق الأوسط الكبير» سحب رمادية تنذر بعواصف سياسية في أكثر من مكان.
في لبنان انهى وفد الترويكا الأوروبي (وزراء خارجية فرنسا وإيطاليا وإسبانيا) مهمته في بيروت من دون التوصل إلى تفاهم مع الأطراف المحلية بشأن انتخابات رئاسةالجمهورية. فالمؤشرات تدل على أن جلسة النواب غدا (الثلثاء) لن تعقد بذريعة عدم توافر النصاب القانوني. وفي حال أجلت جلسة الغد فمعنى ذلك أن لبنان بقي أمامه فترة شهر لانتخاب رئيس. وإذا مضت الأيام من دون توافق على اسمه ومواصفاته يصبح البلد الصغير مهددا بالانزلاق نحو فراغ دستوري قد يؤدي إلى تشكيل وحدات سياسية صغرى تدير شئونه.
في فلسطين أنهت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس جولتها السابعة في أقل من سنة من دون التوصّل إلى تفاهمات مبدئية (اتفاق إطار) مع سلطة محمود عباس وحكومة إيهود أولمرت. وفي حال لم تنجح واشنطن في تحديد صورة «المؤتمر الدولي» وبرنامجه والأطراف المدعوة إليه والهدف المرجو منه تصبح احتمالات التوصل إلى هدنة مؤقتة أو تسوية مرحلية مهددة بالانهيار وربما تدفع بالأطراف إلى مواجهات محدودة في الضفة الغربية. أمّا قطاع غزّة فإنه يشهد بين حين وآخر اشتباكات داخلية متفرقة بسبب طموح «حماس» لاحتكار السلطة ومنع المشاركة من أطراف سياسية موجودة تقليديا في الميدان. وهذا النوع من التفكير الأمني في ظل الاحتلال والحصار لا يساعد على استقرار القطاع وإنما يشجع على نمو قوى معارضة لسلطة «حماس» في اعتبار أن احتكار القوة في منطقة تواجه اعتداءات إسرائيلية يومية تخضع لقراءات متخالفة في رؤيتها السياسية.
في السودان تبدو العلاقة بين الخرطوم وقوى التمرد في الجنوب غير مستقرة على رغم التوافقات والتعهدات والتنازلات. فالحكومة الوطنية المشتركة التي ضمت وزراء من الجنوب وصلت إلى أفق مسدود بشأن الدستور واحتمال التصويت على الوحدة أو الشراكة أو الانقسام والتقسيم. ويأتي هذا التوتر الجديد على خلفية التجاذبات الدولية والإفريقية والعربية التي تختفي وتظهر في إقليم دارفور.
غرب وشرق
هذا في غرب «الشرق الأوسط». أمّا في شرقه فالأمور تبدو أسوأ. فالسحب الرمادية أخذت تتجمع مع اقتراب فصل الشتاء وتمتد من باكستان وأفغانستان إلى إيران وتركيا والعراق.
في باكستان بدأ الأمن الداخلي يتزعزع إثر عودة بنظير بوتو إلى بلادها بعد غياب ثماني سنوات. فالعودة لم تسعف الرئيس برويز مشرف على توسيع رقعة حكمه وإنما جذبت إليه سلسلة انفجارات يمكن أن تدخل السلطة في منعطفات قبلية تعبر الحدود باتجاه أفغانستان. وأفغانستان التي لم تستقر منذ الغزو السوفياتي في 1979 ثم الغزو الأميركي في 2001 يرجح أنْ تتواصل فيها الاضطرابات بسبب ضعف الدولة وعدم قدرتها على ضبط التوازن السياسي في بلد معقد في طبيعته وتضاريسه القبلية. وفي حال نجحت «طالبان» في استعادة شعبيتها وترميم شوكتها في قبيلة البشتون (أكبر القبائل) ستصبح حكومة كابول الأميركية في موقع صعب وخصوصا إذا استطاع تنظيم «القاعدة» تأمين ملاذ آمن خارج نطاق جبال تورا بورا. فالتحالف الثنائي (طالبان والقاعدة) سيكون له تأثيره السلبي في زعزعة الاستقرار ليس في دائرة أفغانستان وإنما سيمتد قبليا وسياسيا إلى باكستان.
في ايران تظهر الامور على الشاشة السياسية محطمة وغير واضحة في صورتها. فهناك متغيرات غير مفهومة ولا يعرف من الآنَ إذا كانت تدفع الحوادث نحو الاستقرار أو الاضطراب. وقبل أن تنجلي الخطوط لابد من انتظار مجرى الملف النووي (مشروع التخصيب) وكيف سيكون انعكاس التغييرات على التوجهات العامة التي يرجح أن تتبلور أوراقها قبل العودة إلى مناقشة الملف (الحوافز أو العقوبات) في الأمم المتحدة.
في تركيا أخذت خيارات السلطة (الحكومة والجيش) تتقلص ولم يعد أمام أنقرة سوى الرد على حزب العمال الكردستاني في شمال العراق. البرلمان التركي أعطى الضوء الأخضر بالتوغل العسكري، ورئيس الحكومة طيب رجب أردوغان تمهل ولم يسارع في اتخاذ الخطوة، ولكن عودة الحزب الكردي/ التركي إلى مواصلة هجماته ضد المدنيين والعسكريين في جنوب شرق الأناضول خفف من احتمالات التسوية. الرد التركي أصبح على الأبواب وهذا يعني أن قواعد اللعبة الدولية/ الإقليمية في المنطقة دخلت في سياق يختلف في زواياه السياسية عن طبيعة الصراع الذي افتعلته واشنطن بعد غزو العراق في 2003. فالدخول العسكري من طرف حليف لأميركا إلى بلد تحتله الولايات المتحدة سيؤدي إلى تعديلات في الوان الصورة وسيدفع القوى الإقليمية المجاورة للعراق إلى احتمال الانزلاق في تجاذبات محلية بهدف تحسين الشروط وتقاسم النفوذ.
إصرار حزب العمال الكردستاني على مواصلة عملياته العسكرية انطلاقا من شمال العراق في ظل الاحتلال الأميركي وتحت رقابته ورعايته يعطي إشارة سياسية إلى وجود خطة استدراج للقوى الإقليمية للتدخل أو التورط في حروب استنزاف طويلة ترفع عن كاهل إدارة جورج بوش تلك الضغوط التي تطالبه بالانسحاب من العراق في أسرع وقت.
في العراق يبدوالقطار يسير على أكثر من سكة حديد. فهناك خط المحاكمات الثأرية وقرارات الإعدام الانتقامية التي تذكر بأساليب العهد السابق. وهناك خط الانقسامات الطائفية والمذهبية المعطوفة على تجاذبات سياسية وأهلية وسرقات ونصب واحتيال وفساد. وهناك خط التوترات الإقليمية التي أخذت تطوق بلاد الرافدين من شماله وغربه (تركيا وسورية) إلى شرقه وجنوبه (إيران). وهناك أيضا خط الاحتلال الأميركي الذي يحرك خيوط اللعبة باتجاه المزيد من التفكيك والتقويض وتخويف المنطقة بانهيارات واضطرابات وربما اعتداءات. وكل هذه الخطوط المتعاكسة ستدفع بالقطار العراقي على الخروج عن سكة الحديد في نهاية الطريق.
منطقة «الشرق الأوسط الكبير» في حال فوضى عامة من دارفور إلى باكستان. وهذه الفوضى التي تبدو مدروسة أو محكومة بضوابط دولية وإقليمية يرجح ألا تستمر على حالها إلى ما لانهاية. فالسحب الرمادية التي أخذت تتجمع في فضاءات المنطقة دخلت عليها قوى إقليمية كبرى (باكستان في الشرق وتركيا في الغرب) قبل اقتراب موعد فصل الشتاء. وفي حال تواصل الانزلاق نحو الهاويات فإن المشهد السياسي في هذا الشرق الكبير ستدخل عليه متغيرات كثيرة ليست بعيدة في صورها القريبة والبعيدة عن ذاك «النموذج» الذي أسسته الولايات المتحدة في العراق.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1872 - الأحد 21 أكتوبر 2007م الموافق 09 شوال 1428هـ